ولهذا لم أعلم أحدا من الناس قال: إن الأموال المحترمة المجهولة المالك تتلف، وإنما يحكى ذلك عن بعض الغالطين من المتورعة: أنه ألقى شيئا من ماله في البحر، أو أنه تركه في البر ونحو ذلك. فهؤلاء تجد منهم حسن القصد وصدق الورع، لا صواب العمل.
وأما حبسها دائما أبدا إلى غير غاية منتظرة، بل مع العلم أنه لا يرجى معرفة صاحبها، ولا القدرة على إيصالها إليه، فهذا مثل إتلافها، فإن الإتلاف إنما حرم لتعطيلها عن انتفاع الآدميين بها، وهذا تعطيل أيضا بل هو أشد منه من الوجهين:
(أحدهما) أنه تعذيب للنفوس بإبقاء ما يحتاجون إليه من غير انتفاع به.
(الثاني) أن العادة جارية بأن مثل هذه الأمور لا بد أن يستولي عليها أحد من الظلمة بعد هذا إذا لم ينفقها أهل العدل والحق، فيكون حبسها إعانة للظلمة، وتسليما في الحقيقة إلى الظلمة، فيكون: منعها أهل الحق، وأعطاها أهل الباطل، ولا فرق بين القصد وعدمه في هذا، فإن من وضع إنسانا بمسبعة فقد قتله، ومن ألقى اللحم بين السباع فقد أكله، ومن حبس الأموال العظيمة لمن يستولي عليها من الظلمة فقد أعطاهموها، فإذا كان إتلافها حراما، وحبسها أشد من إتلافها - تعين إنفاقها، وليس لها مصرف معين، فتصرف في جميع جهات البر والقرب التي يتقرب بها إلى الله، لأن الله خلق الخلق لعبادته، وخلق لهم الأموال ليستعينوا بها على عبادته، فتصرف في سبيل الله، والله أعلم.
٨ - وسئل شيخ الإسلام - رحمه الله - عن رجل له حق في بيت المال، إما لمنفعة في الجهاد أو لولايته، فأحيل ببعض حقه على بعض المظالم؟
فأجاب: لا تستخرج أنت هذا، ولا تعن على استخراجه، فإن ذلك ظلم، لكن اطلب حقك من المال المحصل عندهم، وإن كان مجموعا