للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إن الإنسانية قد ابتليت بمادية تجاهلت قيمة الإنسان واعتباره كإنسان يحمل بين جنبيه قطعة ذات قيمة نادرة، حتى أصبح الإنسان بحكم إيغاله في المادية وانغماسه في مقتضياتها لا يشكل فارقا كبيرا بينه وبين حيوانات أخرى لا تحمل بين جنباتها ما يحمله الإنسان من قلب هو ميزته عن سائرها فصار لا يفرق بين طعام وطعام، ولا بين شراب وشراب ولا بين خلق وخلق من حيث الإباحة والتحريم إلا كما يفرق الحيوان بين ذلك، كما ابتليت الإنسانية بمذاهب عقيدية أنكرت على الإنسان قيمته كإنسان فحرمت عليه ما أحل الله من طعام وشراب ولباس وغير ذلك من زينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق فعطلت تلك المذاهب في الإنسان وظيفته في هذه الحياة، قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (١)

إن الإسلام يأخذ في اعتباره عند التشريع أن الإنسان روح وجسد وأن العناية بأحد التركيبين لا ينبغي أن تقل عن العناية بالتركيب الآخر، فهو حينما يعني بالروح تربية وتهذيبا يعني بالجسد تنمية ورعاية قال تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} (٢) وقال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (٣) ويروى أن رجالا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرادوا التبتل تدينا فنهاهم - صلى الله عليه وسلم - وقال: «" إنما أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني (٤)». ويروى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قوله: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعلم لأخرتك كأنك تموت غدا.

لقد تخرج من المدرسة الإسلامية رجال قادوا الإنسانية إلى أسمى مثال وأعز اعتبار وأعلى منال فظهرت جوانب الإشراق في التشريع الإسلامي في مجالات العبادة والثقافة والولاية والتقنين والاقتصاد وسائر المعارف العقلية والنقلية مما شهد به الأعداء وهم أبعد ما يكونون من الشهادة بالحق والاتصاف بالإنصاف فلقد قال بعضهم: إننا لا نبالغ إذا قلنا إن أوربا مدينة للمسلمين بخدمتهم العلمية، تلك الخدمة التي كانت العامل الأكبر في النهضة العلمية الأوروبية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. وقال آخرون: إنه لولا أعمال ابن الهيثم والبيروني وابن سيناء والخوارزمي والكندي والطوسي والبوزجاني وغيرهم لاضطر علماء النهضة الأوروبية أن يبنوا من حيث بدأ هؤلاء ولتأخر سير المدنية عدة قرون. اهـ.

وممن أنصف علماء المسلمين وأشاد بفضلهم على الإنسانية وعلى الحضارة الحديثة الأستاذ برنال فهو يقول: إن الفضل أعظم الفضل للعلماء العرب في الحفاظ على هذا التراث وتدوينه ونقله والتأليف فيه، وإن العلماء العرب قد بلغوا في ذلك وإنهم تفوقوا على الأغريق وجعلوا العلم سهلا مستساغا، فأقبل الناس على النهل منه


(١) سورة البقرة الآية ٣٠
(٢) سورة البقرة الآية ٢٠١
(٣) سورة القصص الآية ٧٧
(٤) صحيح البخاري النكاح (٥٠٦٣)، صحيح مسلم النكاح (١٤٠١)، سنن النسائي النكاح (٣٢١٧)، مسند أحمد بن حنبل (٣/ ٢٤١).