للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يحفظ حاسة البصر أو يعيدها بعد الفقدان وجب عليهم أن ينفعوا الناس به ووجب تمكينهم من وسائله بقدر ما تقتضيه الضرورة والحاجة، وللوسائل في الشرع حكم المقاصد؛ ولذلك جاز أن يباشر طلاب الطب وأساتذته تشريح جثث الموتى ما دام ذلك هو السبيل الوحيد لتعلم فن الطب وتعليمه والعمل به. وبدونه لا يكون طب صحيح ولا علاج مثمر، بل لا يعد طبيبا من لا يعرف فن التشريح علما وعملا، كما قرر ذلك جميع الأطباء.

فيجب أن يمكن أطباء هذه المؤسسة من القيام بهذه المهمة الإنسانية الجليلة وعلاج عيون الأحياء بعيون الموتى الصالحة لذلك كشفا للضرر عنهم، ولا يمنع من ذلك ما يرى فيه من انتهاك حرمة الموتى؛ فإن علاج الأحياء من الضرورات التي يباح فيها شرعا بارتكاب هذا المحظور، هذا بتسليم أنه انتهاك لحرمة الموتى، ولكن من القواعد الشرعية أن الضرورات تبيح المحظورات، ولذا أبيح عند المخمصة أكل الميتة المحرمة، وعند الغصة إساغة اللقمة بجرعة من الخمر المحرمة، إحياء للنفس إذا لم يوجد سواهما مما يحل، وجاز دفع الصائل ولو أدى إلى قتله، وجاز شق بطن الميتة لإخراج الولد منها إذا كانت حياته ترجى، بل قيل بجواز شق بطن الميت إذا ابتلع لؤلؤة ثمينة أو دنانير لغيره، وإباحة المحظورات تقديرا للضرورات قاعدة يقتضيها العقل والشرع وفي الحديث «لا ضرر ولا ضرار (١)» وقد بني عليها كثير من الأحكام، ولذا قال الفقهاء: الضرر يزال فعملا بهذه القاعدة يجوز نزع عيون بعض الموتى مع ما فيه من المساس بحرمتهم لإنقاذ عيون الأحياء من مضرة العمى والمرض الشديد.

ومن القواعد العامة أن الحاجة تنزل منزل الضرورة عامة كانت أو خاصة، ولذا أجاز الفقهاء بيع السلم مع كونه بيع المعدوم دفعا لحاجة المفلسين، وأجازوا بيع الوفاء دفعا لحاجة المدينين، ولا شك أن حاجة الأحياء إلى العلاج ودفع ضرر الأمراض وخطرها بمنزلة الضرورة التي يباح من أجلها ما هو محظور شرعا، والدين يسر لا حرج فيه، قال تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (٢) على أنه إذا قارنا بين مضرة ترك العيون تفقد حاسة الإبصار ومضرة انتهاك حرمة الموتى نجد الثانية أخف ضررا من الأولى، ومن المبادئ الشرعية أنه إذا تعارضت مفسدتان تدرأ أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما ضررا ولا شك أن الإضرار للميت أخف من الإضرار بالحي، ويجب أن يعلم أن إباحة نزع هذه العيون لهذا الغرض مقيدة بقدر ما تستدعيه الضرورة لما تقرر شرعا أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها فقط، ولذلك لا يجوز للمضطر لأكل الميتة إلا قدر ما يسد الرمق، وللمضطر لإزالة الغصة بالخمر إلا الجرعة المزيلة لها فقط، ولا يجوز أن تستر الجبيرة من الأعضاء الصحيحة إلا القدر الضروري لوضعها، ولا يجوز للطبيب أن ينظر من العورة إلا بقدر الحاجة الضرورية وغير خاف أن ابتناء الأحكام على المبادئ العامة والقواعد الكلية مسلك أصولي في تعريف الأحكام الجزئية للحوادث والوقائع النازلة التي لم يرد فيها بعينها نص عن الشارع، ولذلك نجد الشريعة الإسلامية لا تضيق ذرعا بحادث جديد، بل تفسح له صدرها وتشمله قواعدها الكلية ومبادئها العامة.

وإذ قد علم من هذا أنه يجوز شرعا بل قد يتعين نزع عيون بعض الموتى لهذا الغرض العلمي الإنساني


(١) سنن ابن ماجه الأحكام (٢٣٤٠)، مسند أحمد بن حنبل (٥/ ٣٢٧).
(٢) سورة الحج الآية ٧٨