* بيد أنه نشأ في القرن الخامس والرابع والثالث قبل الميلاد في بلاد اليونان مجموعة كبيرة من المفكرين النابهين، بل ومن العباقرة، فكروا وتأملوا ونقدوا واستنكروا وانفصلوا عن الدين يعلنون ذلك في صخب أو في هدوء، وفي كثير من الأحيان يسترون ذلك ويخفونه في نفوسهم، ولكنهم على أي وضع كانوا، ألفوا مذاهب آمنوا بها واعتقدوها: مذاهب بشرية لم تؤسس على وحي ولم ينزلها الله على لسان أنبيائه ورسله.
* ألفوا مذاهب تتصل بالله سبحانه وبالآخرة وبالسلوك الإنساني الذي يجب أن يلتزمه الإنسان.
* إنها مذاهب مؤسسة على العقل: عنه تصدر، ومنه تنبع، وعليه تقوم إن العقل ينشئها ويسير معها خطوة فخطوة حتى يصل بها - في تدرج - إلى غايتها، إنها مذاهب عقلية، إنها مذاهب بشرية. إنها في المستوىالبشري.
* وإذا كانت أسطورة الدين اليوناني هي التي دفعت هؤلاء المفكرين على ما أقدموا عليه فإن الأمر لم يكن كذلك فيما قبل. كان الوضع فيما قبل: التفرقة بين مجالين من مجالي المعرفة: -
١ - مجال المعرفة الحسية، وهو مجال آلات المعرفة فيه الحواس، وموضوعه المادة، والعقل يجول فيه مستنبطا ومستنتجا، فيؤلف فيه ويركب ويعيد تأليفه وتركيبه، ويستخرج قوانينه وقواعده، فتكون الحضارة، ويكون العلم بمفهومه الغربي الحديث أو بمفهومه الكوني المادي: طبيعة وكيمياء وفلك.
٢ - مجال المعرفة الروحية والأخلاقية، وهو مجال ليست الحواس مصدره وليس العقل منشئه أو مبتدعه، وإنما مرده إلى الوحي ينزله الله على ألسنة من يصطفيهم لحمل الرسالة من خلقه، إنه من اختصاص الله تعالى يبينه على ألسنة رسله.
* وسار الأمر على هذه الكيفية إلى العهد اليوناني القديم: فخاض الإنسان في مجال الحس - وهو اختصاصه - وخاض في مجال الروح بعقله، وليس للعقل في مجال الغيب إلا محاولة الفهم؛ إذ الإنشاء والابتداع في هذا المجال ليس للإنسان، وليس من اختصاصه.
* وجاءت المسيحية الصادقة الموحاة فردت الأمر إلى حالته الطبيعية: عالم الحس، للإنسان أن يفكر فيه ويستنبط، وعالم الروح يتفهمه الإنسان عن طريق الوحي.