للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومن تجسيد المعاني في الخطبة هذه المقارنة بين نصيب الأنصار وغيرهم من سائر الناس، والمقارنة حقيقية وواقعية، ولكن الطريف المثير هو تصويرها، فقد صور النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار في جانب والناس في جانب، وقد أخذوا جميعا نصيبهم فأما الأنصار فكان نصيبهم شخص النبي نفسه. فأخذوه ورجعوا به إلى رحالهم، وأما أنصبة الناس فكانت شياها وبعرانا، هذا يعود إلى رحله بشاة، وذلك يعود ببعير، ولنتأمل أي روعة بيانية، وأي تأثير عاطفي، تثيره هذه المقارنة في نفوس الأنصار حين يتصورون مجرد تصوير، هذه المقابلة بين نصيبهم العظيم، وتفاهة أي نصيب آخر حينئذ مهما عظم.

ومن هذا التجسيد للمعاني تعبيره - صلى الله عليه وسلم- عن ميله للأنصار وإيثاره لصحبتهم على صحبة سائر الناس، فقد جسدت الخطبة صورة أخرى من صور المقارنة بين الأنصار وغيرهم افتراضا. فالأنصار وحدهم في طريق، والناس جميعا يسلكون طريقا آخر، وإذا النبي يؤثر طريق الأنصار على كل طريق آخر وهذه مقابلة أخرى ترتسم مجسمة في نفوس الأنصار، حين يتمثلون أنفسهم في طريق خاصة بهم، وقد انحاز إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم- والناس جميعا محرومون مما حظي به الأنصار.

والخطبة بعد ذلك مليئة بالأساليب البلاغية والصور الفنية الرائعة.

لاحظ الاستفهام في " ألم آتكم ضلالا إلخ " وغرضه التقريري:

ولاحظ التوافق الموسيقي في تقسيم الجمل، وما فيها من مقابلات «ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله (١)». . إلخ.

وكيف أسند الهداية والغنى وتأليف القلوب إلى الله، مع أنه يبين موقفه منهم: إنه يشير بهذا إلى أن ذلك فضل الله، وأنه بشر مثلهم، ولكنه يتصرف بإلهام منه، واستهداف لرضاه.

وفي الخطبة من أساليب التأكيد اللازمة للإقناع مثل " أما والله- فوالذي نفس محمد بيده. . إلخ ". وفي التعبير بلفظ " معشر " في " يا معشر الأنصار " استمالة لهم وإشعار بأنهم معشره وهو منهم.

وفي " والذي نفس محمد بيده " كناية عن الله سبحانه.

هكذا نرى الهدي النبوي في أروع صوره، ونتمثل بلاغته في قمة إعجازها، ونستجلي حكمته البالغة في المثل الصائب، والحجة المقنعة، والكياسة الرشيدة، والقيادة الحكيمة لأزمة النفوس الشاردة، وأعنة القلوب الجامحة. . . صلى الله عليك يا خاتم الأنبياء، وأفصح الفصحاء.


(١) مسند أحمد بن حنبل (٣/ ٧٧).