" المجتهدون من الفقهاء كثير، وخاصة في القرون الثلاثة التي شهد لها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالخير، وقد اشتهر من بينهم على مر السنين أربعة: أبو حنيفة النعمان بن ثابت في العراق، وأبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي في المدينة المنورة، وأبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي القرشي عالم قريش وفخرها، وأبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، إمام أهل الحديث وقدوتهم وفقيه أهل العراق في زمانه.
وأسباب شهرتهم كثيرة، منها: انتشار مذهبهم في البلد الذي نشئوا فيه أو ارتحلوا إليه على مقتضى السنة الكونية، كأبي حنيفة وأحمد رحمهما الله في العراق، ومالك في المدينة، والشافعي في مكة ومصر.
ومنها: نشاط تلاميذهم ومن أخذ بمذهبهم وبنى على أصولهم واجتهادهم في الدعوة إلى مذهبهم في بلادهم، أو البلاد التي رحلوا إليها، كمحمد بن الحسن وأبي يوسف مثلا في العراق، وابن القاسم وأشهب في مصر، وسحنون في المغرب، والربيع بن سليمان في مصر، وتلاميذ الإمام أحمد في الشام والعراق.
ومنها: تبني الحكومات للمذهب ولعلمائه، وتوليتهم إياهم المناصب، كالقضاء، وفتحهم المدارس لهم، وإغداق الخير عليهم من أوقاف وغيرها. ولم يدع أحد منهم إلى مذهبه، ولم يتعصب له، ولم يلزم غيره العمل به أو بمذهب معين، إنما كانوا يدعون إلى العمل بالكتاب والسنة، ويشرحون نصوص الدين، ويبينون قواعده، ويفرعون عليها، ويفتون فيما يسألون عنه، دون أن يلزموا أحدا من تلاميذهم أو غيرهم برأي