للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إن الآية تدل على أن الربا كان محرما على اليهود كما هو محرم علينا، وأن النهي يدل على حرمة الربا المنهي عنه وإلا لما توعد سبحانه وتعالى بالعذاب على مخالفته.

ورأى بعض الفقهاء عبارات التوراة في النهي عن الربا تشبه في معانيها ومؤداها عبارات القرآن، وأن الحكمة في نهي اليهود عن الربا هي دفع الظلم والاستغلال عن المحتاج، وهي الحكمة عينها التي صرح بها القرآن في قوله تعالى لمن أربوا: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} (١) يعني لا تظلمون في أخذ الربا، فإن ما يقبضه المرابي من الربا هو بمثابة الأموال التي تصل إليه بالغصب والسلب، وتوبة المرابي سبيلها أن يرد الربا على من أربى عليه، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه وخلصوا من ذلك إلى أن الربا الذي حرم على اليهود، هو نفسه الذي حرم على المسلمين، والشرائع يصدق بعضها بعضا، إذ كل في الأصل من عند الله تعالى (٢).

وكان للقول بوحدة الربا في الإسلام آثاره في دراسة أصول أحكامه وتحديد نظريته لدى كل من رجال الفقه الإسلامي والقانون المدني جميعا، فقد جعل فريق ربا البيوع راجعا إلى ربا الدين، وجهدوا في إثبات خصائص ربا الدين في ربا الفضل وربا النسيئة معا، فترخصوا في تكييف الفضل في البيوع الربوية، وهو زيادة مقدار، ورأوه يشبه زيادة القيمة في ربا القروض، وحاولوا في جهد غير يسير أن يضعوا تعريفا موحدا يجمع جميع أنواع الربا، وأدى كل أولئك إلى الخلط في الأحكام وإلى المشقة في ردها إلى أصولها والوقوف على حكمة كل منها. ولم يستقم لفقهاء القانون أن يضعوا أنواع الربا موضعها الصحيح في إطار عرضها المقارن بالقوانين، فجاء ربا البيوع في كتابتهم حدا شرعيا مانعا للغبن، وأقاموا على ذلك أصلا عاما نسبوه إلى الشريعة، يوجب تعادل التزامات الطرفين في العقود، وإذا وجدوا عقد العرض ليس من البيوع التي يقتصر عليها الربا، قالوا: إن ربا القرض، وهو أصل الربا كما تعرفه الشرائع والقوانين، يدخل في ربا البيوع شرعا من باب القياس.

ولكن هذا المجال الذي تتغاير فيه فروع الشرائع، يقتضي أن نحذر الفتنة عن بعض ما جاء به الإسلام وأن نحيط بأحكامه كما فصلت في القرآن والسنة تفصيلا، وعندها يستبين ما فيها من الأحكام الذي يميز كل نوع من (الربوات) من غيره، ومن التطور الذي لم يقتصر على ما استحدث من الربا في البيوع مختلفا عن الغبن، بل أضاف إلى ربا الدين من الخصائص ما عدل من طبيعته وحكمته جميعا. ويشرق من كل أولئك نور الإعجاز الذي يشهد بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بلغ من تلك الأحكام الاقتصادية التي أوحاها اللطيف الخبير، ودقة حكمة بعض منها على أفهام المخاطبين من المسلمين حين شرعها وعلى كثير منهم ومن غيرهم حتى اليوم.

وتفرغ في هذا البحث لربا الدين، الذي مهر اليهود في أخذه وعرفته على غرارهم القوانين الوضعية، ونقارنه بما جاء في الإسلام في شأنه، حتى يتبين الفرق بين الربوين في الأحكام وأثر هذا الفرق في اختلاف الحكمة في حظرهما وأثرها في التنظيم الاقتصادي والبنيان الاجتماعي والسياسي.


(١) سورة البقرة الآية ٢٧٩
(٢) تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، للدكتور سامي حسن حمود