للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

" للأجنبي تقرض بربا" أن التوراة الأصلية فقدت، وأن نسختها الراهنة كتبت بعد السبي، ويبدو أن كاتبها أخذ تلك العبارة من دلالة المفهوم المخالف للنص الوارد بالعبارة السابقة عليها، وهذا المفهوم لا حجة فيه عند جمهور الأصوليين إذا كان مفهوم لقب، كما أن بعض أنبيائهم قد أطلقوا ذم الربا، في مثل النصوص التي تقدمت.

ويبرر فريق من علماء اليهود أخذ الربا من الأجنبي على أساس المعاملة بالمثل، إذ كان السائد قديما أن الأجانب لا يقرضون اليهود إلا بالربا، فوجب على اليهودي أن يأخذ الربا عندما يقرض للأجنبي، وأن يعطي الربا للأجنبي الذي يقترض منه (١). وإذا صح هذا السبب، فإنه لا يباح لليهود أن يأخذوا الربا من المسلمين، وكذلك من كل من يدين بحرمة الربا من ملل النصارى وغيرهم.

ولا يقتصر أثر هذه الخاصية في ربا اليهود على شيوع أخذهم له من غيرهم وجعل إيتاءه هينا على كثير ممن يدينون بحرمة ذلك من غير اليهود، حتى استشرى الربا في مختلف (الأمم)، بل باءت هذه الخصيصة على اليهود أنفسهم بالفساد، إذ طفقوا يحتالون بها على أخذ الربا من إخوانهم، بأن اتخذوا من الأجنبي حاجزا بين طرفي القرض منهم، فيقرض المرابي اليهودي أجنبيا يقرض بدوره المستقرض اليهودي ويتقاضاه الربا ليأخذه المرابي من يد أجنبي بظاهر من الأمر يتفق وتلك الخاصية، ويستر حقيقة العصيان في أخذ الربا من اليهودي (٢).

وران ذلك على قلوبهم فقست وألفت ذلك العصيان، ولم يعودوا يتكلفون ستره. وتسجل التوراة عليهم في سفر نحميا، بإصحاحه الخامس، أنهم كانوا يأخذون الربا كل واحد من أخيه فيما أقرضوا من فضة وقمح، وفي العدد ١٠ أنهم تركوا هذا الربا تائبين، ولكن لا تجد في النصوص من بعد ذلك ما يدل على رعايتهم ما نهوا عنه، وقد جاء القرآن الكريم، في الآية ١٦١ من سورة النساء، مصدقا لما سجلته أسفارهم عليه من ذلك العصيان. وبذلك أدت هذه الخصيصة، التي يقصد بها اليهود ألا يذروا ظلما للأجانب، إلى إضاعة ما اختصوا به المدينين منهم من رعاية تنجيهم من ظلم أكلة الربا، وخالفوا من باب هذه التفرقة الظالمة عن التكليف، في أصله كما يؤمنون به.

وذهب بعض فقهائهم ممن تفيأ خلال الإسلام علما وسماحة، إلى القول بألا يتوسع في إقراض الأجنبي بالربا حتى لا يعتاده اليهودي ويذهب ورعه عن أخذ الربا المحظور من أخيه. فبنى التقييد على ما يرى فيه نفعا لليهودي وحده، ولم يقمه على ما ينبغي من كف ظلم اليهودي للمسلمين الذين يعلم أنهم سلم عليه لا يخفرون ذمة له ولا يظلمونه شيئا.


(١) دائرة المعارف اليهودية، م١٢ ص٢٩٠
(٢) الربا عند اليهود، للأستاذ عاشور ص١٣٧ عن كتاب شولحان عروخ، ود. حمود ص ٢١٨.