للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقلص فتقدم ابن مسعود من رسول الله وقال له: علمني من هذا القول- يعني الدعاء الذي دعا به الرسول- فقال له رسول الله: إنك غلام معلم (١)» ولفتت هذه المعجزة نظر ابن مسعود فلم يلبث أن انضم إلى قافلة المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان سادس ستة فيه (٢) وتمكنت الصلة بين ابن مسعود ورسول الله. حتى اصطفاه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لنفسه واختص به دون غيره، فكان ابن مسعود صاحب سر رسول الله ووساده وسواكه ونعله وطهوره (٣) لا يفارقه في سفر ولا حضر، ولا سلم ولا حرب، حتى إن من رأى ملازمته لرسول الله ظنه واحدا من أهله، قال أبو موسى الأشعري: لقد رأيت رسول الله وما أرى إلا ابن مسعود إلا من أهله (٤). لقد كان يشهد إذا غبنا ويؤذن له إذا احتجبنا (٥) فأورثته هذه الملازمة علما فاق به أقرانه من الصحابة، كما سنرى.

وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي ابن مسعود عضدا للدول الإسلامية، يقدم للخلفاء الرأي السديد والمشورة المخلصة، وبقي كذلك إلى أن فتحت العراق، والعراق ذات حضارة عريقة وثقافة، تعانقت فيها حضارة البابليين والآشوريين والكلدانيين والفرس واليونان، وأصبح عمر بن الخطاب بحاجة إلى شخص جمع الذكاء إلى العلم، يلقي به في خضم هذا المد الحضاري في العراق ليمكن للحضارة الإسلامية في تلك الأرض، ولتجد مكانها بين الحضارات الأخرى فيها، فلم يجد لهذه المهمة أكفأ من عبد الله بن مسعود فبعثه إلى العراق معلما وقاضيا وخازنا لبيت مال المسلمين (٦) فيها وكتب لأهل العراق أما بعد: فإني بعثت إليكم عمارا أميرا وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاسمعوا لهما واقتدوا بهما، وإني آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي (٧).

وبقي ابن مسعود في عمله هذا مدة خلافة عمر بن الخطاب وصدرا من خلافة عثمان ثم تركه ورحل إلى المدينة المنورة، توفي ابن مسعود في المدينة المنورة سنة ٣٢هـ ودفن في البقيع وهو ابن بضع وستين سنة، ولم يخلف من الأولاد إلا أبا عبيدة وهو أكبرهم، وعبد الرحمن وقد تركه وهو ابن ست سنين وعتبة وهو أصغرهم (٨).


(١) دلائل النبوة لأبي نعيم ص٤٢٤ بتحقيقي، وصفة الصفوة ١/ ٣٩٥ بتحقيقي ومسند الإمام أحمد ١/ ٤٦٢.
(٢) صفة الصفوة ١/ ٣٩٥.
(٣) صفة الصفوة ٣/ ٣٩٥ وآثار أبي يوسف الأثر رقم ٩٣٧.
(٤) صفة الصفوة ١/ ٣٩٧.
(٥) صحيح مسلم في فضائل ابن مسعود وإعلام الموقعين ٢/ ٢١٩.
(٦) صفة الصفوة ٣/ ٣٩٥.
(٧) صفة الصفوة ١/ ٣٩٥ وطبقات ابن سعد ٢/ ١٧٧.
(٨) المحلى ٨/ ٣٦٩.