للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أحدها: أن العرف الإسلامي العام يعد تمثيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إهانة لهم أو مزريا بقدرهم، ومما أعهد من الوقائع في ذلك أن بعض النصارى كانوا أرادوا أن يمثلوا قصة يوسف عليه السلام في بعض المدن السورية فهاج المسلمون لذلك، وحاولوا منعهم بالقوة، ورفع الأمر إلى الأستانة فصدرت إرادة السلطان عبد الحميد بمنع تمثيل تلك القصة وأمثالها، فإن قيل إن بعض مسلمي مصر كأولئك المتعلمين القائلين بالجواز لا يعدون ذلك إهانة ولا إزراء إذ لا يخفى على مسلم أن إهانة الأنبياء أو الإزراء بهم أقل ما يقال فيه إنه من كبائر المعاصي، وقد يكون كفرا صريحا وردة عن الإسلام، نقول إنما العبرة في العرف بالجمهور الذي تربى على آداب الإسلام وأحكامه لا بالأفراد القلائل، ومن غلبت عليهم التقاليد الإفرنجية، حتى صاروا يفضلونها على الآداب الإسلامية، كذلك القاضي الأهلي الذي حكم ببراءة أستاذ مدرسة أميرية غازل امرأة محصنة وتصباها، وكاشفها بافتتانه بجمالها حتى هجره الرقاد، وواصله السهاد.

فشكت المحصنة هذه الوقاحة إلى زوجها فرفع الزوج الأمر إلى قاضي العقوبات طالبا تعزير ذلك العادي المفتات، فكان رأي القاضي أن مغازلة المحصنات الحسان وتصبيهن، يحتمل ذلك الكلام الذي يفسدهن على أزواجهن، ولا يقتضي سجنا ولا غرامة، ولا تأنيبا، ولا ملامة؛ لأنه إظهار لحب الحسن والجمال، وهو من ترقي الذوق وآيات الكمال، ولكن ما رآه هذا القاضي المتفرنج حسنا وكمالا، رآه السواد الأعظم من المسلمين نقصا قبيحا، وأنكره عليه في الجرائد حتى منعتها مراقبة المطبوعات من التمادي في الإنكار، واستأنف الزوج الحكم فنقضه الاستئناف، وحكم بأن كلام ذلك الأستاذ جريمة منافية للآداب، ولو حاول بعض أجواق التمثيل تمثيل قصة أحد الرسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام- لرأوا من إنكار العلماء والجرائد ما لا يخطر ببال أولئك الأفراد الذين يرون جوازه، ولو وقع مثل ذلك في بلد لم تذلل أهله سيطرة الحكام لما كان إلا مثارا للفتنة ولتصدى الناس لصد الممثلين بالقوة، بل يغلب على ظني أن أكثر الناس يعدون تمثيل الأمراء والسلاطين، وكبار رجال العلم والدين، مما يزري بمقامهم، ويضع من قدرهم، وأن أحدا من هؤلاء الكبراء لا يرضى لنفسه ذلك.

الوجه الثاني: إن أكثر الممثلين لهذه القصص من سواد العامة، وأرقاهم في الصناعة لا يرتقي إلى مقام الخاصة، فإن فرضنا أن جمهور أهل العرف لا يرون تمثيل الأنبياء إزراء بهم على إطلاقه أفلا يعدون من الإزراء والإخلال بما يجب لهم من التعظيم أن يسمى (السي فلان) أو (الخواجة فلان) إبراهيم خليل الله أو موسى كليم الله أو عيسى روح الله أو محمدا خاتم رسل الله؟ فيقال له في دار التمثيل: يا رسول الله ما قولك في كذا. . . . . . فيقول كذا. . . . . . ولا يبعد بعد ذلك أن يخاطبه بعض الخلعاء بهذا اللقب في غير وقت التمثيل على سبيل الحكاية أو من باب التهكم والزراية، كأن يراه بعضهم يرتكب إثما فيقول له: مدد يا رسول الله! ألا إن أباحة تمثيل هؤلاء الناس للأنبياء قد تؤدي إلى مثل هذا، وكفى به مانعا لو لم يكن ثم غيره.