للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

محدود وعقولهم قاصرة عن إدراك تلك الحكمة الإلهية، وكل ما في الوجود مخلوق لله خلقه بمشيئته وقدرته، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، هو الذي يعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعز ويذل ويغني ويفقر ويضل ويهدي ويسعد ويشقى ويؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، وقد أحسن كل شيء خلقه، وكل أفعال الخالق وأوامره ونواهيه لها حكمة بالغة وغايات محمودة يشكر عليها سبحانه وإن لم يعرفها البشر لقصور إدراكهم.

وقد ورد في الصحيحين وغيرهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار (١)» (وفي رواية) «لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر (٢)» (وفي رواية) «لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أرسل الليل والنهار فإذا شئت قبضتهما (٣)» وقد كان العرب في الجاهلية ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره فيقولون أصابتهم قوارع الدهر الدهر، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها فكان مرجع سبها إلى الله -عز وجل- إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يصفونها فنهوا عن سب الدهر وقد نقل هذا التفسير للحديث بهذا المعنى عن الشافعي وأبي عبيد وابن جرير والبغوي وغيرهم.

وأما معنى قوله (أقلب الليل والنهار) يعني أن ما يجري فيهما من خير وشر بإرادة الله وتدبيره وبعلم منه تعالى وحكمة، لا يشاركه في ذلك غيره، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالواجب عند ذلك حمده في الحالتين وحسن الظن به سبحانه وبحمده والرجوع إليه بالتوبة والإنابة قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (٤).

وقد أورد الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- بابا في كتاب التوحيد سماه (باب من سب الدهر فقد آذى الله) أورد فيه هذا الحديث وبين أنه يشتمل على عدة مسائل:

١ - النهي عن سب الدهر.

٢ - تسميته أذى لله.

٣ - التأمل في قوله (فإن الله هو الدهر).

٤ - أنه قد يكون سابا ولو لم يقصده بقلبه.

وعلى هذا فإن الكاتبة - سامحها الله - أخطأت عندما نسبت القسوة إلى الدهر في عنوان قصتها لأن القدر - كما سبق - لا يتصرف وإنما الله سبحانه هو المقدر للأشياء عن حكمة بالغة، والله جل وعلا لا يوصف بالقسوة بل هو جل وعلا رحيم بعباده، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها كما ورد في الحديث الصحيح «الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها (٥)» فيجب أن ننزه أقلامنا عن الوقوع في


(١) صحيح البخاري تفسير القرآن (٤٨٢٦)، صحيح مسلم الألفاظ من الأدب وغيرها (٢٢٤٦)، سنن أبو داود الأدب (٥٢٧٤)، مسند أحمد بن حنبل (٢/ ٢٣٨).
(٢) صحيح البخاري تفسير القرآن (٤٨٢٦)، صحيح مسلم الألفاظ من الأدب وغيرها (٢٢٤٦)، سنن أبو داود الأدب (٥٢٧٤)، مسند أحمد بن حنبل (٢/ ٤٩٦)، موطأ مالك الجامع (١٨٤٦).
(٣) صحيح البخاري تفسير القرآن (٤٨٢٦)، صحيح مسلم الألفاظ من الأدب وغيرها (٢٢٤٦)، سنن أبو داود الأدب (٥٢٧٤)، مسند أحمد بن حنبل (٢/ ٢٧٥)، موطأ مالك الجامع (١٨٤٦).
(٤) سورة الأنبياء الآية ٣٥
(٥) صحيح البخاري الأدب (٥٩٩٩)، صحيح مسلم التوبة (٢٧٥٤).