للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والعلماء يمثلون القيادة الفكرية للأمة، والقوة الموجهة التي تحول بين الجماهير والانحراف والفساد، فإذا فقدوا فضيلة الصراحة في الحق والجرأة في إلقاء الكلمة المؤمنة الصادقة كان إيذاء ذلك شديدا.

وكانت عاقبة ذلك دمارا للأمة ولكل معاني الخير فيها.

فمن أجل ذلك رأيت أن أضرب بعض الأمثلة على أصالة هذا الخلق العظيم في سيرة هذا الإمام العظيم: ذكر أبو يعلى (أن محمد بن علي الآجري قال:

قلت لأبي داود: أيهما أعلى عندك: علي بن الجعد أو عمرو بن مرزوق؟

قال: عمرو أعلى عندنا. علي بن الجعد وسم بميسم سوء قال: " وما يسؤوني أن يعذب الله معاوية "

وقال: " ابن عمر ذاك الصبي ") (١).

فأبو داود يعلن رأيه بصراحة، ويجرح علي بن الجعد ويذكر سبب الجرح وهو وقوعه في الصحابة، إذ أن كلمته في معاوية تدل على شيء من الكراهية لبعض الصحابة أو عدم اهتمام على أقل تقدير، وذلك عندما يقرر أنه لا يسؤوه أن يعذب الله معاوية رضي الله عنه، وكذلك فإن قوله عن ابن عمر إنه صبي فيه ما يدل على قلة احترام للصحابة وعلى التهوين من شأنهم.

ومن الأمثلة الرائعة على جرأته في الحق ومواجهته الحكام بما يعتقد سواء وافق رغبتهم أم لم يوافق ما رواه خادمه أبو بكر بن جابر الذي قال:

كنت معه ببغداد، فصلينا المغرب إذ قرع الباب، ففتحته فإذا خادم يقول: هذا الأمير أبو أحمد الموفق يستأذن. فدخلت إلى أبي داود فأخبرته بمكانه، فأذن له، فدخل، وقعد، ثم أقبل عليه أبو داود وقال:

ما جاء بالأمير في مثل هذا الوقت؟

فقال: خلال ثلاث.

فقال: وما هي؟

قال: تنتقل إلى البصرة فنتخذها وطنا ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بك، فإنها قال خربت، وانقطع عنها الناس لما جرى عليها من محنة الزنج.


(١) طبقات الحنابلة " ١/ ١٥٩.