للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فذكر هذا وأضعافه عبد الغافر في " السياق "، إلى أن قال: ولقد زرته مرارا، وما كنت أحدس في نفسي مع ما عهدته عليه من الزعارة والنظر إلى الناس بعين الاستخفاف كبرا وخيلاء، واعتزازا بما رزق من البسطة، والنطق، والذهن، وطلب العلو ; أنه صار على الضد، وتصفى عن تلك الكدورات، وكنت أظنه متلفعا بجلباب التكلف، متنمسا بما صار إليه، فتحققت بعد السبر والتنقير أن الأمر على خلاف المظنون، وأن الرجل أفاق بعد الجنون، وحكى لنا في ليال كيفية أحواله من ابتداء ما أظهر له طريق التأله، وغلبة الحال عليه بعد تبحره في العلوم، واستطالته على الكل بكلامه، والاستعداد الذي خصه الله به في تحصيل أنواع العلوم، وتمكنه من البحث والنظر، حتى تبرم بالاشتغال بالعلوم العرية عن المعاملة، وتفكر في العاقبة، وما يبقى في الآخرة، فابتدأ بصحبة الشيخ أبي علي الفارمذي فأخذ منه استفتاح الطريقة، وامتثل ما كان يأمره به من العبادات والنوافل والأذكار والاجتهاد طلبا للنجاة، إلى أن جاز تلك العقاب، وتكلف تلك المشاق، وما حصل على ما كان يرومه.

ثم حكى أنه راجع العلوم، وخاض في الفنون الدقيقة، والتقى بأربابها حتى تفتحت له أبوابها، وبقي مدة في الوقائع وتكافؤ الأدلة، وفتح عليه باب من الخوف بحيث شغله عن كل شيء، وحمله على الإعراض عما سواه، حتى سهل ذلك عليه، إلى أن ارتاض، وظهرت له الحقائق، وصار ما كنا نظن به ناموسا وتخلقا، طبعا وتحققا، وأن ذلك أثر السعادة المقدرة له.