للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وبين الاقتصار على القتل دون الصلب؛ لقوله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (١) وذكر أبو جعفر الطحاوي: أن الصلب المذكور في آية المحارب هو الصلب بعد القتل في قول أبي حنيفة، وكان أبو الحسن الكرخي يحكي عن أبي يوسف أنه يصلب ثم يقتل ببعج بطنه برمح أو غيره فيقتل، وقال أبو الحسن: هذا هو الصحيح، وصلبه بعد القتل لا معنى له؛ لأن الصلب عقوبة وذلك يستحيل في الميت، فقيل له: لم لا يجوز أن يصلب بعد القتل ردعا لغيره، فقال: لأن الصلب إذا كان موضوعه للتعذيب والعقوبة لم يجز إيقاعه إلا على الوجه الموضوع في الشريعة. فإن قال قائل: إن كان الله تعالى إنما أوجب القتل أو الصلب على وجه التخيير فكيف يجوز جمعهما عليه. قيل له: أراد قتلا على غير وجه الصلب إذا قتل ولم يأخذ المال، وأراد قتلا على وجه الصلب إذا قتل وأخذ المال؛ فغلظت العقوبة عليه في صفة القتل لجمعه بين القتل وأخذ المال، وروى مغيرة عن إبراهيم قال: يترك المصلوب من المحاربين على الخشبة يوما، وقال يحيى بن آدم ثلاثة أيام. واختلف في النفي فقال أصحابنا: هو حبسه حيث يرى الإمام، وروي مثله عن إبراهيم، وروي عن إبراهيم رواية أخرى وهو أن نفيه طلبه، وقال مالك: ينفى إلى بلد آخر غير البلد الذي يستحق فيه العقوبة فيحبس هناك، وقال مجاهد وغيره: هو أن يطلب الإمام الحد عليه حتى يخرج عن دار الإسلام. قال أبو بكر: فأما من قال: إنه ينفى عن كل بلد يدخله فهو إنما ينفيه عن البلد الذي هو فيه، والإقامة فيه وهو حينئذ غير منفي من التصرف في غيره، فلا معنى لذلك، ولا معنى أيضا لحبسه في بلد غير بلده؛ إذ الحبس يستوي في البلد الذي أصاب فيه وفي غيره، فالصحيح إذا حبسه في بلد وأيضا فلا يخلو قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (٢) من أن يكون المراد به نفيه من جميع الأرض وذلك محال؛ لأنه لا يمكن نفيه من جميع الأرض إلا بأن يقتل، ومعلوم أنه لم يرد بالنفي القتل؛ لأنه قد ذكر في الآية القتل مع النفي أو يكون مراده نفيه من الأرض التي خرج منها محاربا من غير حبسه؛ لأنه معلوم أن المراد بما ذكره زجره عن إخافة السبيل وكف أذاه عن المسلمين، وهو إذا صار إلى بلد آخر فكان هناك مخلا كانت معرته قائمة على المسلمين إذا كان تصرفه هناك كتصرفه في غيره أو أن يكون المراد نفيه عن دار الإسلام، وذلك ممتنع أيضا؛ لأنه لا يجوز نفي المسلم إلى دار الحرب لما فيه من تعريضه للردة ومصيره إلى أن يكون حربيا؛ فثبت أن معنى النفي هو نفيه عن سائر الأرض إلا موضع


(١) سورة المائدة الآية ٣٣
(٢) سورة المائدة الآية ٣٣