وأصل " المدونة " أسئلة. سألها أسد بن الفرات لابن القاسم. فلما ارتحل سحنون بها عرضها على ابن القاسم، فأصلح فيها كثيرا، وأسقط، ثم رتبها سحنون، وبوبها. واحتج لكثير من مسائلها بالآثار من مروياته، مع أن فيها أشياء لا ينهض دليلها، بل رأي محض. وحكوا أن سحنونا في أواخر الأمر علم عليها، وهم بإسقاطها وتهذيب " المدونة "، فأدركته المنية رحمه الله. فكبراء المالكية، يعرفون تلك المسائل، ويقررون منها ما قدروا عليه، ويوهنون ما ضعف دليله. فهي لها أسوة بغيرها من دواوين الفقه. وكل أحد فيؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب ذاك القبر -صلى الله عليه وسلم- تسليما. فالعلم بحر بلا ساحل، هو مفرق في الأمة، موجود لمن التمسه.
وتفسير سحنون بأنه اسم طائر بالمغرب، يوصف بالفطنة والتحرز، وهو بفتح السين وبضمها. توفي الإمام سحنون في شهر رجب سنة أربعين ومائتين. وله ثمانون سنة، وخلفه ولده محمد.
قرأت في " تاريخ القيروان " لأبي بكر عبد الله بن محمد المالكي قال: قال أبو العرب: اجتمعت في سحنون خلال قلما اجتمعت في غيره: الفقه البارع، والورع الصادق، والصرامة في الحق، والزهادة في الدنيا، والتخشن في الملبس والمطعم، والسماحة. كان ربما وصل إخوانه بالثلاثين دينارا، وكان لا يقبل من أحد شيئا. ولم يكن يهاب سلطانا في حق، شديدا على أهل البدع، انتشرت إمامته، وأجمعوا على فضله، قدم به أبوه مع جند الحمصيين، وهو من تنوخ صليبة.
وعن سحنون قال: حججت زميل ابن وهب.
وقال عيسى بن مسكين: سحنون راهب هذه الأمة، ولم يكن بين مالك وسحنون أحد أفقه من سحنون.
وعن سحنون قال: إني حفظت هذه الكتب، حتى صارت في صدري كأم القرآن. وعنه قال: إني لأخرج من الدنيا، ولا يسألني الله عن مسألة قلت فيها برأيي، وما أكثر ما لا أعرف. وعنه: سرعة الجواب بالصواب أشد فتنة من فتنة المال.