للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (١) وقد قرر المحققون من أهل العلم أن الإمام مخير في إيقاع إحدى العقوبات المنصوص عليها في هذه الآية على من اتصف بالصفة المذكورة فيها، وأن لفظة (أو) تفيد التخيير وهذا المعنى هو الذي أخذ به كافة أعضاء هيئة كبار العلماء، كما هو موضح في القرار رقم (٨٥) في ١١/ ١١ / ١٤٠١ هـ الصادر في هذه الدورة، ولم يخالف في ذلك أحد، ونظرا لأن أكثرية الأعضاء رأوا أن التخيير المنصوص عليه في الآية ينبغي إسناده إلى القضاة؛ لأنهم نواب الإمام في إصدار الأحكام، واستثنوا من التخيير ما لو قتل المحارب في محاربته أحدا فرأوا أنه لا خيار في قتله، وأن قتله حتم، وأن ذلك إجماع على ما حكاه ابن المنذر رحمه الله.

ونظرا لأننا نرى أن الخيار إنما هو للإمام؛ لماله من سعة النظر وشمول الولاية ومعرفة مصالح البلاد عامة، وتقديره لما لا يقدره القضاة من أبعاد سياسية لها أثرها في مصير الأمة، ويعاني من شرور المجرمين ما لا يعاني بعضه القضاة- وقد فرق العلماء بين تصرفات القاضي والإمام، وبينوا أن بعض التصرفات مما ينبغي أن يختص به الإمام العام، ولا شك أن التخيير في عقوبة المحارب من ذلك، فإنه لا أحد من أهل العلم فيما نعلم قال أن القاضي مخير في عقاب المحاربين، وجميع من تكلم على تفسير آية الحرابة ممن يقول بالتخيير قال: إن الإمام هو المخير، لكن إذا قال ولي الأمر في قضية جزئية من قضايا الحرابة والسعي بالأرض فسادا أن على القاضي أن يحكم فيها بما يراه الأصلح صار القاضي مفوضا فيها، والذي نرى أنه المتفق مع مدلول الآية الكريمة، والمتفق مع ما قرره المحققون من أهل العلم أن الخيار لولي الأمر وليس للقاضي، وإنما يصير للقاضي بإسناده إليه من الإمام، فقد يخفى على القاضي ما كان معلوما للإمام، وقد لا يحيط بظروف الأحوال في جميع أنحاء الدولة؛ فيحكم القاضي بالحبس في قضية يرى الإمام أن القتل فيها أنكى، وقد يرى الإمام في قضية أخرى أن قطع الأيدي والأرجل من خلاف أوقع في النفوس وأزجر لها، وقد يرى في بعض الأحوال أن عدم القتل أجلب للمصلحة وأعظم دفعا للمفاسد، ولهذا نظائر وأمثال فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل من يستحق القتل لولا أمر خارج عن مستحق القتل، كما في امتناعه صلى الله عليه من


(١) سورة المائدة الآية ٣٣