للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من الأفعال مغير لحكمها، بمنزلة العقود.

وأيضا فإنها قبل الزكاة محرمة. فالزكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال. فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والزكاة: الأصل فيه الحل - وإن غير حكم العين - فكذلك أفعالنا في الأملاك في العقود ونحوها: الأصل فيها الحل وإن غيرت حكم الملك.

وسب ذلك: أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع، وملك البضع الثابت بالنكاح نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام، والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا، لم يثبته ابتداء، كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة، فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم، ولم يحرم الشارع علينا رفعه: لم يحرم علينا رفعه. فمن اشترى عينا فالشارع أحلها له وحرمها على غيره، لإثباته سبب ذلك، وهو الملك الثابت بالبيع. وما لم يحرم الشارع عليه رفع ذلك، فله أن يرفع ما أثبته على أي وجه أحب، ما لم يحرمه الشارع عليه. كمن أعطى رجلا مالا: فالأصل أن لا يحرم عليه التصرف فيه. وإن كان مزيلا للملك الذي أثبته المعطي ما لم يمنع مانع. وهذا نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها، وهو أن الأحكام الجزئية - من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو - لم يشرعها الشارع شرعا جزئيا، وإنما شرعها شرعا كليا، مثل قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (١) سورة البقرة آية: ٢٧٥، وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (٢) سورة النساء آية: ٢٤، وقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (٣) سورة النساء آية: ٣، وهذا الحكم الكلي ثابت، سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد. فإذا وجد بيع معين أثبت ملكا معينا. فهذا المعين سببه فعل العبد، فإذا رفعه العبد فإنما رفع ما أثبته الله من الحكم الجزئي، إنما هو تابع لفعل العبد سببه فقط؛ لأن الشارع أثبته ابتداء.

* * *

وإنما توهم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام، وليس كذلك، فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته الشارع. وأما هذا المعين فإنما ثبت؛ لأن العبد أدخله في المطلق، فإدخاله في المطلق إليه، فكذلك إخراجه، إذ الشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبدا، مثل أن يقول: هذا الثوب بعه أو لا تبعه، أو هبه أو لا تهبه، وإنما حكمه على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين حكم على المعين.

فتدبر هذا، وفرق بين تغيير الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بإدخاله في المطلق وبين تغيير الحكم العام الذي أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد. وإذا ظهر أن العقود لا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع، فإنما وجب الوفاء بها لإيجاب الشارع الوفاء بها مطلقا، إلا ما خصه الدليل، على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل، بل والعقلاء جميعهم، وقد أدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي، ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع، والوفاء بها وجب لإيجاب الشارع إذن، ولإيجاب العقل أيضا.


(١) سورة البقرة الآية ٢٧٥
(٢) سورة النساء الآية ٢٤
(٣) سورة النساء الآية ٣