وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال"، وطبيعة الأحوال هذه التي يشير إليها ابن خلدون، ويعتبرها القانون الذي بمقتضاه يسير التطور الضروري الذي لا يعاند، إنما هي سنة الله التي توجه شراع الخليقة، لينة تارة، عنيفة أخرى، والتي أشار إليها القرآن في أكثر من آية، وهكذا يصبح التأريخ، استكشافا كليا لتطور الإنسان، ومحاولة حل للغز وضعه اليوم في هذا الكون، ولمصيره العاجل أو الآجل.
ولئن كان ابن خلدون لم يطبق كثيرا من آرائه هذه الطموحة الجريئة في كتاب العبر، فإن ذلك لا يسلب فضل التعبير عنها بغاية الدقة والوضوح. فإنه كان من المستحيل علميا- لا سيما في زمانه، تطبيقها من طرف باحث واحد، في موسوعة فتحت صفحاتها لتاريخ العالم الإسلامي بأكمله - ولعل استعصاء تطبيق هذه الآراء في كتاب (العبر) هو الذي جعل ابن خلدون يضمن خلاصة أفكاره وعبره واعتباراته خاصة في (المقدمة).
وهكذا فتح أبوابها للاجتماع والاقتصاد والمؤسسات، وضروب الثقافات والعلوم. لأن كل ذلك إن لم يكن تاريخا صرفا بالمعنى الضيق، فلا غنى للمؤرخ عنه، ولا سبيل لفهم الإنسان بدونه.
وهكذا كان ابن خلدون عملاقا، يقف متفردا، كحد فاصل بين مرحلتين متميزتين في المنهج التأريخي، وقد أعطى بهذا المنهج المتفرد سبقا للحضارة الإسلامية، التي كان لها الفضل الكبير في الانتقال بالتأريخ من مرحلة الجمع إلى مرحلة التفسير، ومن منهجية التوثيق إلى منهجية التمحيص والتركيب الفلسفي الذي يمثل مرحلة جديدة في الرشد العقلي للإنسانية كلها.