للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

العقل والعلم والصناعة، ولكن يستحيل أن ينمحي التدين، بل سيبقى حجة ناطقة على بطلان المذهب المادي الذي يريد أن يحصر الفكر الإنساني في المضايق الدنيئة للحياة الأرضية (١) ".

ويعلق المرحوم الأستاذ محمد فريد وجدي على قول رينان السابق فيقول:

" نعم مستحيل أن تتلاشى فطرة التدين في الإنسان، لأنها أشرف ميول النفس، وأكرم عواطفها،. . . ففطرة التدين ستلازم الإنسان ما دام ذا عقل يعقل به القبح والجمال، وروية يجيلها في الكون والكائنات، وستزداد فيه هذه الفطرة حياة وقوة على نسبة علو مداركه، وسمو معارفه (٢) ". . . .

وبعد فقد انتهى المبشرون بالمذهب المادي إلى الحقيقة الناصعة، وقعدوا يلهثون بعد ما أتعبوا أنفسهم في تدعيم مذهبهم والترويج له، وإذا بهم يرون أنفسهم وعلومهم لا شيء أمام هذا المذهب المحجب بحجب كثيفة وكثيرة، فلا يكاد العلم يرفع لهم حجابا إلا ويجدون من ورائه حجبا، ولا ينفك البحث يصل بهم إلى حقيقة إلا ويلمحون من وراء الغيب حقائق أخرى وأعظم. . . وأخيرا يستسلمون أخيرا لمن هو وراء هذه الحجب والمغيبات، يديرها بعلمه وعلى مقتضى حكمته.

نعم رأينا زعماء هذا المذهب المادي يستسلمون أخيرا لواهب الوجود، ويلوذون برواق الدين هربا من ماديتهم المتخبطة، وعلمانيتهم المحيرة، فهذا (كونت) الذي كان يتنبأ بأن فناء الديانات سيكون هو النهاية الحتمية لتقدم العلوم، قد عاد في آخر أمره متصوفا عجيبا، وكلل حياته بوضع ديانة جديدة طبعها على غرار النظام الكنسي للديانة الكاثوليكية: في عقائدها، وطقوسها، وأعيادها، وطبقات قساوستها، رواية كاملة أعاد فصولها ولم يغير إلا أشخاصها " (٣).

" وهذا سبنسر، ينتهي بأن يقول عن المجهول: (إنه تلك القوة التي لا تخضع لشيء في العقول، بل هي مبدأ كل معقول، وهي المنبع الذي يفيض عنه كل شيء في الوجود). . أليس هذا المجهول هو بعينه موضوع الديانات، يجيئنا الآن باسم آخر على لسان العلم؟ " (٤).


(١) الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص ٨٠
(٢) دائرة معارف القرن العشرين للأستاذ محمد فريد وجدي، في مادة (دين).
(٣) الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص ٨٧.
(٤) المرجع السابق.