للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لنفي صحة الرسالة وردها، بل ليس دليلا أصلا؛ إذ يدل على تغير اجتهاد عمر في هذه المسألة، بل يؤيد صحة الرسالة؛ إذ قدوم هذا الرجل يشتكي إليه استغلال الناس لاعتبار أن الأول في المسلمين العدالة، مما يدل على أن عمر قد أمر بهذا أولا كما جاء في الرسالة، ثم رجع عن هذا الأصل، واعتبر العدالة شيئا آخر، فقد يكون مسلما لكنه غير عدل في الشهادة.

فرجوع عمر - إن صح - لا يطعن في صدور الرسالة منه، بل يحمل على تغير الاجتهاد، وهو شيء وإنكار الرسالة جميعها شيء آخر. فهو حين كتب الرسالة إلى أبي موسى الأشعري لم تكن شهادة الزور قد فشت، فاكتفي من الشاهد تحقق الإسلام فيه، فلما فشت شهادة الزور شدد فيما يشترط في هذا الشاهد.

يقول ابن فرحون بعد ذكر الرسالة: قال ابن سهل: وقول عمر - رضي الله عنه - في هذه الرسالة: " المؤمنون عدول بعضهم على بعض " رجع عمر - رحمه الله - عن ذلك بما رواه مالك في الموطأ، قال ربيعه: قدم رجل من أهل العراق على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: قد جئتك بأمر لا رأس له ولا ذنب، فقال له عمر وما هو؟ فقال: شهادات الزور ظهرت بأرضنا، فقال عمر - رضي الله عنه -: " والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول ". وهذا يدل على رجوعه عما في هذه الرسالة، ونحو ذلك نقله ابن عبد الحكم عن عمر - رضي الله عنه -، وذكر عن الحسن والليث بن سعد من التابعين الأخذ بما في هذه الرسالة في أمر الشهود، والأكثرون على خلافه بدليل قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (١)، وقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (٢) (٣).

كما أن مضمون العدالة في الآية {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (٤) غير محدود، فترك الله مقاييس هذه العدالة للناس في كل جيل بدليل قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (٥) وهذه المقاييس تتغير بتغير المكان والزمان والناس،


(١) سورة الطلاق الآية ٢
(٢) سورة البقرة الآية ٢٨٢
(٣) تبصرة الحكام جـ ١ ص ٢٨.
(٤) سورة الطلاق الآية ٢
(٥) سورة البقرة الآية ٢٨٢