للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإذا كان هذا هو شأن الناصر، فإن ابنه الحكم لم يكن أقل منه شأنا في هذا الصدد، فقد بلغ حرصه على اقتناء الكتب أنه كان يبذل جهدا كبيرا في الحصول عليها أو شرائها قبل أن تظهر أو تشيع في مواطنها ". . . وكان يبعث في الكتب إلى الأقطار رجالا من التجار، ويسرب إليهم الأموال لشرائها حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه " (١) وقد أرسل إليه رجاله الذين بعثهم إلى المشرق لاقتناء الكتب أن أبا الفرج الأصفهاني قد أوشك أن ينتهي من تأليف كتابه " الأغاني " فبعث إليه ألف دينار من الذهب، وحصل منه على نسخة مبكرة من ذلك الكتاب قبل أن يشيع في العراق (٢).

وقد أثمرت جهود الحكم عن تكوين مكتبة كبرى لم يحفل بمثلها حاكم من قبل، حيث غصت خزائنها بالعديد من الكتب النادرة، يقول في وصفها ابن حزم: " أخبرني بكية الخصي - وكان على خزانة العلوم والكتب بدار بني مروان - أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة، وفي كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلا أسماء الدواوين فقط، وأقام للعلم والعلماء سلطانا نفقت فيها بضائعه من كل قطر " (٣).

ولم تقتصر همة هذا الخليفة على جمع الكتب فقط، وإنما كان على قدر كبير من الفهم والإدراك لما تحتويه من معلومات وأفكار، وكان يقضي أغلب وقته في القراءة والاطلاع، وقد ضاقت بها خزائن مكتبته، واستغرق نقلها ستة أشهر (٤).

والغريب أنه لا يقوم بقراءة هذه الكتب فحسب، وإنما كان يعلق على كل كتاب يقرأه بخط يده، ويدلي فيه برأيه، وكان يكتب عليه اسم صاحبه وكنايته وألقابه ونسبه ومولده ووفاته، وما يستتبع ذلك من غرائب وحكايات صادفت المؤلف في حياته (٥).

وهواية جمع الكتب واقتنائها لم تكن وقفا على الأمراء والخلفاء والأمويين على نحو ما وضحنا، وإنما كانت هواية قد تأصلت أيضا في نفس الشعب الأندلسي قبل حكامه، حتى صارت عندهم من علامات الرفعة والسؤدد، لا يستغني الرجل منهم عن تأسيس مكتبة في بيته حتى وإن لم يكن على قدر من المعرفة


(١) ابن خلدون. تاريخه جـ ٤ ص ١٤٦ القاهرة ١٢٨٢ هـ.
(٢) جودة هلال، محمد محمود فاس. قرطبة في التاريخ الإسلامي ط ١٩٦٢ ص ٨٠.
(٣) ابن خلدون. تاريخه جـ ٤ ص ١٤٦.
(٤) المقري. نفح الطيب جـ ١ ص ٣٩٤، ٣٩٥. تحقيق إحسان عباس ١٩٦٨.
(٥) المقري. نفح الطيب جـ ١، ص ٣٩٥. تحقيق إحسان عباس ١٩٦٨.