وعلى الرغم من مرارة هذه الأحداث التي أودت بمكتبة الأمويين في قرطبة، فإن هواية جمع الكتب والنهضة العلمية والأدبية التي نماها الخليفة الناصر وابنه الحكم لم تتوقف، فقد انتهى الحال بهذه المكتبة إلى أيدي عشاق الكتب، وانتهى بها المطاف إلى خزائنهم في إشبيلية والمرية وبطليوس وطليطلة وسرقسطة وبلنسية وغيرها من أمراء الطوائف الذين عبروا عن هويتهم العلمية والأدبية، وكانوا سببا في تعدد المكتبات الخاصة في بلاد الأندلس، حيث كثر هواة الكتب وراجت تجارة الوراقة، ويكفي أن نضرب لذلك مثلا واحدا، فقد ذكر المؤرخون أن الوزير أحمد بن عباس جمع في مكتبته بالمرية وحدها ما يزيد على الأربعمائة ألف كتاب، فضلا عن الرسائل والكراسات (١).
ونخلص من هذا السرد التاريخي لمكتبة الأمويين في قرطبة أنها قامت بدورها الحضاري في نشر الثقافة الإسلامية إبان القرن الرابع، وظل تأثيرها في تحبيب الأندلسيين لجمع الكتب واقتنائها وحفظ التراث العربي والإسلامي باقيا، حتى بعد انتهاء عصر خلافة بني أمية وزوال مكتبتهم في قرطبة، حيث بدأ ملوك الطوائف يقلدون الخلفاء الأمويين في تعلقهم بالعلم والعلماء، وتشجيع الكتاب والمؤلفين، وجمع الكتب النادرة، وإقامة المكتبات الخاصة بحواضرهم والتي تليق بجلال القدر وأبهة الحكم في عواصمهم، ففي الوقت الذي انعدمت فيه مركزية الحكم، تعددت المكتبات الكبرى بتعدد الدويلات التي أقامتها ملوك الطوائف، وحوت خزائنهم الآلاف من المجلدات والمخطوطات النادرة في شتى فروع العلم والمعرفة، وظلت هواية جمع الكتب التي وضع أساسها الخليفة الناصر متمكنة في نفوس الناس بالأندلس طوال حكم المسلمين بها إلى أن استولى الملك فرناندو على غرناطة - آخر معقل إسلامي في الأندلس - وفي عام ١٤٩٢م أصدر أمره بجمع المخطوطات الإسلامية من أيدي المسلمين، وجمع منها وقتذاك مليونين من المخطوطات وتم إحراقها في ميدان باب الرملة في غرناطة على مشهد ومرأى من الجماهير.
(١) خوليان ريبيرا. التربية الإسلامية في الأندلس. ترجمة الطاهر أحمد مكي دار المعارف ص ١٥٦.