عند الرشيد لقضاء اليمن فأبى أحمد، وقال له: جئت إليك لأقتبس منك العلم تأمرني أن أدخل لهم في القضاء، وكان ذلك في آخر حياة الرشيد، ثم رشحه الشافعي مرة ثانية لقضاء اليمن عند الأمين فأبى أحمد وكان ذلك ١٩٥ هـ.
* * *
ودخل الشافعي يوما على أحمد بن حنبل فقال: يا أبا عبد الله كنت اليوم مع أهل العراق في مسألة كذا فلو كان معي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدفع أحمد إليه ثلاثة أحاديث فقال له: جزاك الله خيرا. وقال الشافعي لأحمد يوما: أنتم أعلم بالحديث، والرجال، فإذا كان الحديث الصحيح فعلموني إن شاء يكون كوفيا أو شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا، وهذا من كمال دين الشافعي وعقله حيث سلم هذا العلم لأهله؛ وقال عبد الوهاب الوراق: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، قالوا له: وأي شيء بان لك من علمه وفضله على سائر من رأيت؟ قال: رجل سئل عن ستين ألف مسألة فأجاب فيها بأن قال (أخبرنا) و (حدثنا). وقال أبو زرعة الرازي:
حفظ أحمد بن حنبل بالمذاكرة على سبعمائة ألف حديث، وفي لفظ آخر قال أبو زرعة الرازي: كان أحمد يحفظ ألف ألف، فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذكراته فأخذت عليه الأبواب.
* * *
كان الإمام أحمد يقول: - فاتني مالك فأخلف الله علي بسفيان بن عيينة؛ وفاتني حماد بن زيد فأخلف الله علي إسماعيل ابن علية. وكان ملازما لكتابة الحديث فانشغل بذلك عن كل شيء حتى عن الزواج فلم يتزوج إلا بعد الأربعين. وقيل له: يا أبا عبد الله قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين فقال: مع المحبرة إلى المقبرة، فأنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر.
وقد روى المزني: أن الشافعي قال: ثلاثة من عجائب الزمان: عربي لا يعرب كلمه وهو أبو ثور، وأعجمي لا يخطئ في كلمة وهو الحسن الزعفراني، وصغير كلما قال شيئا صدقه الكبار وهو أحمد بن حنبل.
وقال الشافعي: - خرجت من بغداد ما خلفت بها أحدا أورع ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل، ولم يزل على ذلك مكبا على الحديث والإفتاء وما فيه نفع المسلمين، والتف حوله أصحابه يأخذون عنه الحديث والفقه وغيرهما، وألف المسند في مدة ستين سنة تقريبا، وكان قد ابتدأ بجمعه في سنة ١٨٠ هـ أول ما بدأ بطلب الحديث، وسيأتي الكلام على المسند إن شاء الله تعالى، وألف في التفسير، وفي الناسخ والمنسوخ، وفي التاريخ، وفي المقدم والمؤخر في القرآن، وفي جوابات القرآن، وألف المناسك الصغير والكبير، وفي حديث شعبة، وألف كتاب الزهد، وكتاب الرد على الجهمية والزنادقة، وكتاب الصلاة، وكتاب السنة وكتاب الورع والإيمان، وكتاب