وهذه النقطة الثانية تستلزم البحث في نقطة ثالثة، وهي في مجال الأدلة، في مسألة تعارض النقل مع العقل، فإنه يقدم النقل، مع أن النقل الصحيح، أي النصوص الثابتة في مجال التشريع لا تتعارض مع العقل السليم الصريح. ومن الترهات في ذلك قول بعض المارقين عن تحكيم الشريعة الإسلامية: إن القوانين الوضعية من صنع العقل البشري، والعقل من صنع الله سبحانه، وإذن في النتيجة أن هذه القوانين من صنع الله، ما دامت ثمرة العقل الذي خلقه.
وتأسيسا على قاعدة درء التعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح، يكفي في رد هذه الترهة ما تحمله هذه القوانين الوضعية، وما تنطوي عليه من مخالفة صريحة لما هو ثابت بالضرورة من أمر الدين، ولما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين.
وبعد:
فقد بات واضحا أن التحاكم إلى الشريعة الإسلامية من مقتضيات عقيدة توحيد الله -سبحانه وتعالى-، الحكيم في تشريعاته، الخبير بمصالح عباده، ومن مستلزمات الإيمان والمتابعة لرسوله -صلى الله عليه وسلم-. ولقد ظل العالم الإسلامي مع اتساع رقعته القرون الطويلة يحكمون الشريعة الإسلامية، وما صار التحول عن التحاكم إليها إلا بعد سيطرة الاستعمار الصليبي على بلاد المسلمين، في المشارق والمغارب، ومن قبله التتار، وهكذا كان مسلك أعداء الإسلام دائما، فقد عمل الغرب مثل ما عمل التتار حينما احتلوا أرض المسلمين قدموا لهم [الياسة]، وهو عبارة عن كتاب مجموع من الأحكام مقتبسة عن شرائع شتى من اليهودية والنصرانية، والملة الإسلامية، وغيرها من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، ولكن المسلمين وقت التتار المشرقي يختلفون عن المسلمين وقت الغزو الصليبي الغربي، فأولئك طعنوا في تلك القوانين ورفضوها بالإجماع، وأفتوا