للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وبين هذه السحب المتراكمة المخيفة ولد موسى الكليم. . ويا له من ميلاد مفزع. . ذلك الذي يجيء عبر أنهار من دماء سبعين ألف شهيد وليد. . وكأنما أفزع أمه أن يولد لها غلام. . لأنها تعلم مصيره المحتوم. . ونهايته الأكيدة. . إلا أنها بحافز الحب الخلاق الذي يفرش دروبها المؤمنة. . تخبئ وليدها وراء أهداب العين. . وخلف أحناء الضلوع. . ولكن. . إلى متى يا أم موسى؟ وتصيخ في أمومة حادية معذبة. . فإذا بوحي هادئ منغوم يتردد في خلدها المرهف: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} (١) وتفعل الأم ما أمر به الله. . وتلقي وليدها. . في النيل. .! وكأنما جاشت نفسها حسرات بعد أن رأت الأمواج الغاضبة تتدافع في جنون حاملة تابوت وليدها الغض، تتأرجح به يمنة ويسرة. . وتغوص به مرة، وتطفو به أخرى.

فهمست وهي تتراجع قافلة إلى دارها في ذهول: أليس كان في قتله راحة أندى من أن أطوح به هكذا في ضباب الضياع؟. . وكادت تتهالك من الأسى. . {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (٢)

* * *

ويمضي الموج. . أو يمضي التابوت بالموج. . ليرسو أمام قصر الطاغية. . ويلمحه الجواري إلى جانب الشاطئ يترجرج. . ويتأرجح. . فيلتقطنه. . ويذهبن به إلى آسية امرأة فرعون وتفتح آسية التابوت. . وتعانق صباحها ابتسامة " طفلة " بيضاء ترسم على أعماقها الجديبة صورة الأمل المرتجى. . وبراعم الحب الظامئ اللهيف! وتذهب به إلى فرعون في لهفة ظمأى مستوهبة إياه. . قائلة في ارتعاش أنثوي صارخ: فرعون. . {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} (٣) وتتنزى انتفاضة الغضب في عيني الطاغية. . مصرا على أن يعانق الطفل مصير آلاف من الأطفال سبقوه. . ولكن آسية اللهيفة ما تزال به - تهدهد ثورته - وتتسرب من نوافذ العاطفة إلى قلبه الصلد. . حتى يتلاشى أو ينهار. . ويأمر فرعون أن يستبقى الغلام. .


(١) سورة طه الآية ٣٩
(٢) سورة القصص الآية ١٠
(٣) سورة القصص الآية ٩