للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكتب الحافظ ابن كثير عن شيخ الإسلام فقال: (ثم إن الشيخ بعد وصوله إلى دمشق واستقراره بها لم يزل ملازما لاشتغال الناس في سائر العلوم ونشر العلم، وتصنيف الكتب وإفتاء الناس بالكلام، والكتابة المطولة والاجتهاد في الأحكام الشرعية، ففي بعض الأحكام يفتي بما أدى إليه اجتهاده من موافقة أئمة المذاهب الأربعة، وفي بعضها يفتي بخلافهم وبخلاف المشهور في مذاهبهم، وله اختيارات كثيرة في مجلدات عديدة أفتى بما أدى إليه اجتهاده، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف) (١).

وهناك أقوال كثيرة أخرى لأئمة عصره، اعترفوا له فيها بالإمامة والاستقلال الفكري والتبحر العلمي، وتفوقه بدرجات كثيرة على معاصريه في علوم القرآن والسنة والشروط التي يجب توافرها للاجتهاد، ولذلك رغم اعترافه الصريح بعلو مكانة الأئمة الأربعة، وحسن اجتهادهم وتفوقهم العلمي على كثير من الأئمة، جاهر بأن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وخالف تلك المذاهب الفقهية في كثير من المسائل اتباعا لنصوص الكتاب والسنة، ولم يبال من هو هذا الشخص الذي يخالفه، ما دامت الأدلة من الكتاب والسنة تؤيده.

فهو من أصحاب الاجتهاد المطلق الذي لم ينتسب لمذهب من المذاهب، ولا ينقض هذا القول بما ذكره بعض الناس من استمساكه بالمذهب الحنبلي في أكثر أدواره، وفي أكثر آرائه، وإعلانه أن المذهب الحنبلي خير المذاهب؛ لأن هذا يدل على أن شمولية علم شيخ الإسلام للكتاب والسنة أوصلته إلى معرفة أن المذهب الحنبلي هو خير المذاهب؛ لأن دليله على هذا هو إثبات أن المذهب الحنبلي أقرب المذاهب إلى السنة.

ولا يعني كونه مجتهدا مطلقا أن يخالف الأئمة الأربعة في أكثر المسائل؛ لأن هذا يستدعي إلى القول بأحد الأمرين، إما أن تلك المذاهب غير مؤسسة على القرآن والسنة؛ لأن شيخ الإسلام يمشي مع الدليل


(١) البداية والنهاية، ١٤/ ٦٧.