ووجه هذا التفصيل أن العلماء المجتهدين قد أحاطوا بغالب نصوص الشريعة، وعرفوا الخاص والعام والناسخ والمنسوخ، وقد سبق لهم البحث في العمومات، وعرفوا ما دخله التخصيص منها، وما لم يدخله التخصيص، فالبحث قد حصل منهم سابقا، قبل أن يتصدروا للفتيا أو القضاء، فإذا ألزمناهم بمعاودة البحث فلا يخلو إما أن نقول: تكفيهم غلبة الظن أو لا بد من القطع بعدم المخصص.
فإن قلنا: تكفيهم غلبة الظن، فغلبة الظن حاصلة لهم عند سماع العام الذي لم يعرفوا له مخصصا، وإن قلنا: يلزمهم القطع عطلنا العمل بنصوص الشريعة العامة، وآل بنا الأمر إلى مذهب الواقفية الذين لا يرون العمل بالعمومات؛ لأن القطع لا سبيل إليه في أكثر العمومات.
ويبدو لي أن الذين نقل عنهم المنع من العمل بالعام قبل البحث عن المخصص إنما منعوه لأحد أمرين:
الأول: أنهم لا يقصدون بالبحث عن المخصص استقصاء موارد الأدلة جميعها، وإنما يقصدون مجرد التروي واسترجاع المعلومات السابقة لعرض الدليل العام عليها، فإن وجدوا فيها ما يخصصه خصصوه، وإلا عملوا به في عمومه.
وهذا ظاهر من قول أبي زيد الدبوسي: " وأما الفقيه فيلزمه أن يحتاط لنفسه، فيقف ساعة لاستكشاف هذا الاحتمال بالنظر في الأشباه، مع كونه حجة للعمل به إن عمل، لكن يقف احتياطا حتى لا يحتاج إلى