للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لقد كان المسجد منذ عهد الرسول -عليه السلام-، المنطلق الأول للدعوة الإسلامية والمركز الأساسي الذي شعت منه رسالة محمد -عليه الصلاة والسلام-.

والمسجد لغة اسم لمكان السجود، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (١)»، قال الزركشي: كل مكان يتعبد فيه فهو مسجد. وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (٢) قال المفسرون: المساجد واحدها مسجد، أي موضع السجود للصلاة والتعبد، ويدخل فيها الكنائس والبيع ومساجد المسلمين. وعن قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله معبودات أخرى، فأمرنا بهذه الآية أن نخلص لله تعالى الدعوة إذا دخلنا المسجد. وقال الزركشي: السبب في اختيار كلمة المسجد لمكان الصلاة، أنه لما كان السجود أشرف أعمال الصلاة لقرب العبد من ربه، اشتق اسم المكان منه فقيل مسجد، ولم يقولوا مركع، ثم إن العرف خصص المسجد بالمكان المهيأ للصلوات الخمس.

المسجد منذ أسسه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن مركزا للعبادة والتعبد، والصلاة والتهجد فحسب، وإنما كان بالإضافة إلى ذلك مكانا وناديا يلتقي فيه المسلمون لتدارس أحوالهم وقضايا مجتمعهم، وما يعرض لهم في حياتهم من مشاكل وقضايا.

ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجلس بالمسجد النبوي بالمدينة المنورة لتعليم المسلمين دينهم، وتبصيرهم عاقبة أمرهم، حتى كان مجلسه تنافسيا بين الصحابة -رضوان الله عليهم- كلهم يبتغي السبق إلى حضور هذا المجلس النبوي،، والظفر بالإنصات إلى الذي لا ينطق عن الهوى. ولقد كان جلوسه -عليه السلام- عند موضع الاسطوانة المسماة اليوم اسطوانة التوبة (٣)، وهي كائنة في الروضة الشريفة وهي اليوم الاسطوانة الرابعة فيما بين المنبر النبوي وبين الحجرة المشرفة، فكان -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الصبح انصرف إلى ذلك الموضع فحلق أصحابه به حلقا بعضها دون بعض، أي بعضها أضيق من بعض، فيتلو عليهم ما أنزل من القرآن من ليلته، ويحدثهم إلى طلوع الشمس ويسألونه عما يعرض لهم، ففي صحيح الإمام البخاري من حديث أبي موسى الأشعري «جاء رجل وهو قائم فقال: يا رسول الله، ما القتال في سبيل الله؟ فرفع رأسه إليه وقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (٤)». وفي الصحيح أيضا «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان منهم إلى رسول الله، فوقفا، فأما أحدهما: فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكلام قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة، أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه (٥)». ولعله كان من المنافقين والعياذ بالله.


(١) سنن الترمذي الصلاة (٣١٧)، سنن أبو داود الصلاة (٤٩٢)، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (٧٤٥).
(٢) سورة الجن الآية ١٨
(٣) أضيفت الاسطوانة إلى التوبة مشيرة لتوبة أبي لبابة.
(٤) صحيح البخاري العلم (١٢٣)، صحيح مسلم الإمارة (١٩٠٤)، سنن الترمذي فضائل الجهاد (١٦٤٦)، سنن النسائي الجهاد (٣١٣٦)، سنن أبو داود الجهاد (٢٥١٧)، سنن ابن ماجه الجهاد (٢٧٨٣)، مسند أحمد بن حنبل (٤/ ٤١٧).
(٥) صحيح البخاري العلم (٦٦)، صحيح مسلم السلام (٢١٧٦)، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (٢٧٢٤)، مسند أحمد بن حنبل (٥/ ٢١٩)، موطأ مالك الجامع (١٧٩١).