لقد تخرجت في الأزهر وعملت به أستاذا زمانا طويلا، وعاصرت أنواعا من التغييرات والنظم التي تواردت عليه، وعرفت الفرق بين نظام ونظام، وعملت أستاذا بجامعة القرويين بالمغرب ثلاث سنوات، ومثلها في جامعة أم درمان الإسلامية بالسودان.
وقد تأكدت من خلال هذه التجربة الطويلة، أن منشأ ضعف طلاب الجامعة الدينية الذي نشكو آثاره، داخل المسجد وخارج المسجد، هو البرامج الدراسية، التي هي خلط غير متسق من عناصر شتى، وما يتصل بها من دراسات في مذكرات موضوعة على عجل، استغني بها عن المراجع الأصلية، فانقطعت صلة الطلاب بهذه المراجع، وأصبحوا عاجزين عن الاستفادة منها، وامتحانات يعوزها الجدية والدقة والضبط.
وأضرب هنا مثلا واحدا بسيطا من أمثلة عدة للخلط في البرامج، إنه قد أصبح من المتعارف عليه في الجامعات الدينية، أن يدرس الطلاب لغة أو أكثر من اللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية، وتعطى هذه اللغة من الوقت بعض ما كان مخصصا للغة العربية من قبل، فيضيق الوقت والجهد عن استيعابها جميعا وتكون النتيجة أن لا يحسن الطالب لا هذه ولا تلك، فانحط مستوى الطلاب في اللغة العربية إلى حد يؤذن بقرب ضياعها، إن لم نتدارك الأمر بسرعة وحزم.
إني أؤمن بأنه لا يضير طالب الجامعة الدينية أن يجهل اللغة الأجنبية ما دام سيعهد إليه بعمل لا يتوقف نجاحه فيه على العلم بها، ويضيره كل الضير أن يكون ضعيفا في اللغة العربية التي هي قوام حياته كطالب وعالم وباحث ومؤلف، في مجال القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وكتب الأئمة وعلماء هذه الأمة.
إن نسبة ضئيلة من المتخرجين هي التي تباشر العمل في مجال يتطلب العلم بلغة أجنبية، فينبغي أن يقتصر تعليم اللغة الأجنبية على هذه النسبة. أما أن يفرض تعليمها على الجميع، من سيكون بحاجة إليها، ومن لا يكون، مع أداء ذلك إلى الجهل باللغة العربية، أداء إذا استمر أفضى إلى زوالها وطمس معالمها، وفي زوال اللغة العربية وطمس معالمها زوال الدين وطمس معالمه، وذلك هو الكارثة التي نسأل الله أن يقينا شرها.
والمغزى الأساسي من هذه الكلمات هو الإشارة إلى علاقة المسجد بالجامعة، وأن محاولة إصلاحه منفصلا عنها محاولة صعبة قد لا تأتي بالنتيجة المرجوة.
وما أظنني هنا بحاجة إلى أن أذكر ما قرره بعض ذوي البصر بالأحداث الجارية في العالم الإسلامي، مع أن الخلط في برامج الجامعات الدينية بهذه الصورة المشوهة، التي أدت إلى إضعاف ملكة الطلاب الدينية سياسة أجنبية، نجد لها أعوانا داخل البلاد الإسلامية، يهيئون الفرصة لتطبيقها وتنفيذها.
لقد آن الأوان إلى أن يتواصى المسلمون بالعودة ببرامج الجامعات الدينية، إلى الأصل الذي تخرج عليه علماء يشار إليهم بالبنان، ملئوا الدنيا بآثارهم الطيبة، علما وعملا، وإنا في هذه الظروف الحرجة التي يحياها العالم الإسلامي، لفي أشد الحاجة إلى كثير من أمثالهم ليأخذوا بيد الأمة الإسلامية إلى طريق الفلاح والرشاد.