للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تشغله واجبات الإمارة والجهاد والقيادة عن واجبه الأصلي وهو التعليم، فكان معلما في بيته، معلما في ديوانه، معلما مع رفاقه في السلاح، معلما في قيادته. وكما كان يعلم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والفقه الإسلامي، كان يعلم الورع في بيته وفي ديوانه، ومع المجاهدين، وفي مقر قيادته.

والورع لا يمكن أن يعلم بالأفكار النظرية، بل يعلم بالسلوك العلمي، فهو مما لا يمكن تعليمه بالكتب، بل بالقدوة الحسنة، فتنتقل سمات الورع من نفس إلى نفس بالعدوى التي تنبعث عن القدوة الحسنة، كما ينتقل العلم من عقل إلى عقل بالتلقي الذي يصدر عن الكتب، فكان أبو موسى معلم كتاب يصقل العقول بالعلم، ومعلم تقوى يصقل النفوس بالورع.

ومضى أبو موسى إلى ربه، وبقي منه ورعه المسجل في الكتب، ولا تفيد كتب الورع كما يفيد شيوخ الورع، لأن الكتب تخاطب العقول والشيوخ يناغون القلوب، وليس من رأى كمن سمع، ولكن عسى أن ينتفع بورع أبي موسى المكتوب أهل القلوب، وما لا يدرك كله لا بأس بالانتفاع ببعضه، فشيء مهما يقل أفضل من لا شيء.

فقد جعل أبو موسى من نفسه أسوة حسنة لأهله، قال أنس بن مالك: "قال الأشعري وهو على البصرة: جهزني فإني خارج يوم كذا وكذا، وجعلت أجهزه، فجاء ذلك اليوم وقد بقي من جهازه شيء لم أفرغ منه، فقال: يا أنس! إني خارج. فقلت: لو أقمت حتى أفرغ من بقية جهازك.

فقال: إني قد قلت لأهلي: إني خارج يوم كذا وكذا، وإني إن كذبت أهلي كذبوني، وإن خنتهم خانوني، وإن أخلفتهم أخلفوني، فخرج وقد بقي من حوائجه بعض شيء لم يفرغ منه (١) ".

وفي الصحيحين: البخاري ومسلم، من حديث أبي موسى قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، ونخن ستة نفر على بعير


(١) طبقات ابن سعد (٤/ ١١١) وحلية الأولياء (١/ ٢٥٩).