للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد أكون قد سبقت إلى هذا الفضل، ولكن التكرار للشيء الجميل ليس عيبا، بل هو فضيلة ولقد رأينا أن نستزيد منها ونستضئ بنورها خدمة للحق وللحقيقة - هدانا الله جميعا إلى الإيمان وزادنا الله منه فهو خير زاد. يقول الدكتور جرمانوس:

كان ذلك في ظهيرة يوم مطير وكنت بعد مراهقا، إنني كنت أتابع سجلا مصورا - أحداث معاصرة ممزوجة بروح القصص، ووصف لبلاد بعيدة كانت تملأ صفحاته، قلبت الصفحات بغير ما اكتراث وفجأة وقعت عيناي على لوحة محفورة من الخشب، فشدت هذه اللوحة انتباهي وكانت الصورة تمثل منازل ذات أسقف مسطحة (١) وكانت تبرز بين هذه الأسقف بين الحين والآخر قباب ترتفع خفيفا ويزينها هلال في أعلاها، وكان منظر الرجال فوق هذه الأسطح وهم يجلسون القرفصاء متشحين بملابس غريبة وهم جالسون في صفوف منتظمة تثير الاستغراب ولقد شدتني الصورة بشكل غير عادي. لقد كانت شيئا مختلفا عن الشكل العام للمدينة الأوربية. لقد كان منظرا شرقيا في مكان ما في الشرق العربي حيث كان الراوي في الصورة يحكي قصصا خيالية لقوم يتشحون من قمم رأسهم لأخمص قدميهم، ولقد خيل لي أني أسمع حديث هذا القاص وأتابع مع مستمعيه العرب حديثه هذا، وأنا بعد فتى يجلس على كرسي وثير في المجر ولقد استبد بي حنين طاغ أن أعرف سر هذا النور الذي بدد الظلام في هذه الصورة.

وبدأت أدرس التركية وبدا لي أن أدب اللغة التركية لا يحتوي إلا القليل من الكلمات التركية، فالشعر التركي غني بعناصر فارسية، والنثر غني بمصادر عربية، ولقد حاولت أن أتمكن من هذه اللغات الثلاث حتى أدخل هذا العالم الروحاني الذي أشرق بنوره على الإنسانية.

وخلال عطلة من عطلات الصيف أسعدني الحظ أن أسافر إلى البوسنة أقرب إقليم شرقي إلينا، وبعدما وضعت متاعي في أحد الفنادق اندفعت خارجا لأرى هؤلاء المسلمين الذي عرفت لغتهم التركية خلال الكتابة العربية المعقدة في صفحات من كتب النحو - ولقد كان ذلك في الليل وفي الشوارع الضعيفة الإضاءة استطعت أن اكتشف مقهى متواضعا كان يجلس فيه رجلان من أهل البوسنة على مقاعد منخفضة من القش يستمتعان بشراب القهوة، وكانا يلبسان السراويل التقليدية المنتفخة التي كانت مشدودة إلى الوسط بأحزمة عريضة رصعت بالخناجر اللامعة، ولقد أعطاني منظر غطاء رأسيهما وزيهما الغريب شعورا بالخوف من مظهرهما المرعب، وبقلب تزداد سرعة دقاته خوفا، دخلت المقهى وجلست بخجل شديد في ركن بعيد، ولقد نظر الرجلان لي بعين محبة للاستطلاع، فتذكرت حينئذ القصص الدموية التي قرأتها في الكتب المتعصبة التي تتحدث عن تعصب المسلمين وقد


(١) منازل أوربا معظمها ذات سقوف مثلثة الشكل مغطاة بالقرميد حتى ينزلق عليها المطر (المترجم).