لاحظت أنهما يهمسان لبعضهما البعض، وكان حديثهما بالطبع هو حضوري الذي لم يكن متوقعا، فامتلأت خيالاتي الصبيانية بمشاعر الهلع، فقد تصورت أنهما يريدان أن يغمدا خنجريهما في صدر الكافر المتطفل، ولقد وددت لو خرجت سالما من هذا المكان المخيف ولكني لم أجرؤ على الحركة.
وبعد ثوان أحضر لي النادل فنجانا من القهوة ذات الرائحة القوية النفاذة، وأشار إلى الرجلين اللذين أرعبني منظرهما، فنظرت إليهما بوجه مذعور فحياني أحدهما بسلام جميل وتبعه بإشارة ودية، وبتردد اغتصبت ابتسامة مرتعشة من بين شفتي المرتعشتين، فقام الرجلان اللذان خلتهما عدوان لي واقتربا من مائدتي الصغيرة وماذا بعد؟ لقد كان قلبي الذي يزداد خفقانه يسأل - هل جاءا لقتلي؟ وتبع ذلك سلام ثان وجلسا حولي، وأعطاني أحدهما سيجارة اكتشفت في ضوئها الخافت أن مظهرهما العسكري يخفي روحا مضيافة عطوفة، وعندئذ جمعت قواي وخاطبتهما بالتركية الركيكة التي أعرفها، فكان لذلك فعل السحر فأضاء وجهاهما بمودة تفيض بالحنان ودعياني إلى منزليهما، وبدلا من الخناجر التي تصورتها تخترق أحشائي فقد غمراني بكرمهما - ولقد كان ذلك أول لقاء لي مع المسلمين.
وجاءت السنون ومرت الأعوام تفيض بالعديد والكثير من الأحداث من رحلات ودراسات تفتح أمام عيني المتطلعة مشاهد وتجارب جديدة، وقد عبرت كل أقطار أوربا ودرست في جامعة اسطنبول واستمتعت بروائع الآثار التاريخية لآسيا الصغرى وسوريا، ولقد درست التركية والفارسية والعربية، واستطعت أن أكون أستاذا للدراسات الإسلامية في جامعة بودابست، وبكل ما حصلته من معرفة حسية تراكمت على مدى القرون وآلاف الكتب لكثير من العلماء قرأتها بكل شغف، فإن روحي رغم ذلك بقيت ظمأى ولقد وجدت خيطا رفيعا جافا في كتب العلم والمعرفة، ولكن روحي كانت تتطلع إلى الجنة الدائمة الخضرة من التجربة الروحية، لقد ارتوى عقلي ولكن روحي بقيت ظمأى ولقد كان علي أن أجرد نفسي من كل ما تعلقت به حتى أستطيع أن أستعيد ذلك عن طريق التأمل والتجربة الباطنية لتصفو روحي بنار المعاناة كما يستحيل الحديد الغفل صلبا مرنا بتعريضه لصدمة شديدة من الماء البارد.
وذات ليلة تمثل لي الرسول محمد في مخيلتي وكانت لحيته الطويلة مخضبة بالحناء، وكان رداؤه بسيطا ولكنه مناسب وجميل وتنبعث منه رائحة طيبة وكانت عيناه تلمع بالنور الرائق وخاطبني بصوت كله رجولة:" علام القلق؟ الطريق أمامك. . الطريق القويم مفتوح أمامك مأمون كوجه البسيطة فلتسر فيه بخطى ثابتة بنور الإيمان ".
وصحت في حلمي الجليل باللغة العربية " يا رسول الله إنه لسهل بالنسبة لك يا من سما وعلا ويا من قهرت كل الأعداء ووضعتك العناية الإلهية على طريقك، ولقد كللت جهودك بالمجد ولكن علي أنا أن أعاني ومن يدري متى أجد الراحة؟ ".