وبعد أن أورد الشيخ محمد حمزة في كتابه (دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم) رأي كل من اليهود والمعتزلة والماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي ومن أخذ برأيه من جمهور الأحناف ومن تبعهم، قال: وبعد ما تقدم نجيب بجواب محكم على فرية اليهود وشبهة المستشبهين فنقول: إنما يكون كل من العبث والبداء من لوازم النسخ إن ورد النسخ على حسن لا يقبل حسنه القبح، أو قبيح لا يقبل قبحه الحسن، كالإيمان والكفر، أما في الأفعال التي حسنها وقبحها باعتبار ما يترتب عليها من المصالح المختلفة باختلاف الأزمان والأمم، فإن الله تعالى يبدل ما شاء من الأحكام؛ رعاية لتلك المصالح التي يعلمها، ولا يلزم من ذلك بداء ولا عبث، وعلى ضوء ما تقدم أيضا يبطل قول المنكرين أن ما طلبه الله لحسنه، فلو نهى عنه لأدى إلى أن ينقلب الحسن قبيحا وهو محال، فنقول: إن الإحالة إنما تكون إذا اجتمع الأمر والنهي في فعل واحد من مأمور واحد في زمن واحد، وفرض المسألة غير ذلك فإن المصالح تختلف باختلاف الأوقات، كشرب الدواء فإنه قد يكون نافعا في وقت دون وقت، فيختلف حسن الشيء وقبحه باختلاف الأوقات، وباختلاف الأشخاص أيضا، فالشرع للأديان كالطب للأبدان (١).
٢ - ويثيرون شبهة أخرى فيقولون لو جاز على الله تعالى أن ينسخ حكما بحكم للزم على ذلك أحد باطلين: جهله جل وعلا، وتحصيل الحاصل.
وبيان ذلك أن الله تعالى إما أن يكون قد علم الحكم الأول المنسوخ على أنه مؤبد، وإما يكون قد علمه على أنه مؤقت. فإن كان قد علمه على أنه مستمر إلى الأبد ثم نسخه وصيره غير مستمر انقلب علمه جهلا والجهل عليه تعالى محال، وإن كان علمه على أنه مؤقت بوقت معين ثم نسخه عند ذلك الوقت، ورد عليه أن المؤقت ينتهي بمجرد انتهاء وقته فإنهاؤه بالنسخ تحصيل للحاصل وهو باطل، وتدفع هذه الشبهة بأن الله تعالى قد سبق في علمه أن الحكم