للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إنفاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - واختصاص الملاعن بذلك، ولو كان من شرعه أنها تحرم بالثلاث، لم يكن للملاعن اختصاص ولا يحتاج إلى إنفاذ. فدل على أنه لما قصد الملاعن بالطلاق الثلاث أن تحرم عليه أنفذ النبي - صلى الله عليه وسلم - مقصوده، بل زاده، فإن تحريم اللعان أبلغ من تحريم الطلاق، إذ تحريم اللعان لا يزول وإن نكحت زوجا غيره، وهو مؤبد في أحد قولي العلماء لا يزول بالتوبة.

واستدل الأكثرون: بأن القرآن العظيم يدل على أن الله لم يبح إلا الطلاق الرجعي، وإلا الطلاق للعدة، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} (١) إلى قوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (٢) {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (٣) وهذا إنما يكون في الرجعي، وقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (٤) يدل على أنه لا يجوز إرداف الطلاق للطلاق حتى تنقضي العدة أو يراجعها، لأنه إنما أباح الطلاق للعدة: أي لاستقبال العدة، فمتى طلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بنت على العدة، ولم تستأنفها باتفاق جماهير المسلمين، فإن كان فيه خلاف شاذ عن خلاس وابن حزم فقد بينا فساده في موضع آخر، فإن هذا قول ضعيف: لأنهم كانوا في أول الإسلام إذا أراد الرجل إضرار امرأته طلقها حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ليطيل حبسها، فلو كان إذا لم يراجعها تستأنف العدة لم يكن بحاجة إلى أن يراجعها، والله تعالى قصرهم على الطلاق الثلاث دفعا لهذا الضرر، كما جاءت بذلك الآثار، ودل على أنه كان مستقرا عند الله أن العدة لا تستأنف بدون رجعة سواء كان ذلك لأن الطلاق لا يقع قبل الرجعة، أو يقع ولا يستأنف له العدة، وابن حزم إنما أوجب استئناف العدة بأن يكون الطلاق لاستقبال العدة، فلا يكون طلاق إلا يتعقبه عدة، إذا كان بعد الدخول، كما دل عليه القرآن، فلزمه على ذلك هذا القول الفاسد، وأما من أخذ بمقتضى القرآن وما دلت عليه الآثار فإنه يقول: إن الطلاق الذي شرعه الله هو ما يتعقبه العدة، وما كان صاحبه مخيرا فيها بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان، وهذا منتف في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة فلا يكون جائزا، فلم يكن ذلك طلاقا للعدة.

ولأنه تعالى قال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (٥) فخيره بين الرجعة وبين أن يدعها تقضي العدة فيسرحها بإحسان، فإذا طلقها ثانية قبل انقضاء العدة لم يمسك بمعروف ولم يسرح بإحسان.

وقد قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (٦) فهذا يقتضي أن هذا حال كل مطلقة، فلم يشرع إلا هذا الطلاق ثم قال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (٧).


(١) سورة الطلاق الآية ١
(٢) سورة الطلاق الآية ١
(٣) سورة الطلاق الآية ٢
(٤) سورة الطلاق الآية ١
(٥) سورة الطلاق الآية ٢
(٦) سورة البقرة الآية ٢٢٨
(٧) سورة البقرة الآية ٢٢٩