وفوضوا إلى قضاتهم الحكم بما فهموه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما استنبطه العلماء منهما فصلحت بذلك أحوالهم، واستقامت أمورهم ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. وقد اشتهرت وقد اشتهرت نزاهة القضاء في بلادنا ولله الحمد، وعدالته وبساطته، ومسايرته للفطرة وتمشيه مع مقتضى المصلحة الحقة، حتى صار معلوما عند الموافق والمخالف، ولا يسعنا إزاء هذه النعمة العظيمة التي من الله علينا بالتمسك بها حين تخلى عنها الأكثرون إلا أن نشكره جل وعلا ونسأله أن يثبتنا على ما نحن عليه من الحق ويرزقنا الإعانة والتوفيق.
ثالثا: نظرت الهيئة في الموضوع فرأت أن دواعي الإصلاح قائمة، وأنه لا بد من إيجاد حل للمشكلة وإصلاح لما تخشى عواقبه، غير أن الهيئة بأكثريتها ترى أنه لا يجوز تدوين الأحكام على الوجه المقترح لإلزام القضاة الحكم به؛ لأنه ليس طريقا للإصلاح ولا يحل المشكلة ولا يقضي على الخلاف في الأحكام، أو على ظنون بعض الناس في القضاة ما دام هناك محكوم عليه؛ لأن اتهام القاضي في حكمه لم يسلم منه أحد حتى خير الخلق صلى الله عليه وسلم، فقد قال له بعض الناس: اعدل فإنك لم تعدل، وفي رواية: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله. ومع ذلك فإن التدوين المراد يفضي إلى ما لا تحمد عاقبته وذلك لأمور:
١ - إن إلزام القضاة أن يحكموا بما اختير لهم مما يسمى بالقول الراجح عند من اختاره يقتضي أن يحكم القاضي بخلاف ما يعتقد، ولو في بعض المسائل، وهذا غير جائز ومخالف لما جرى عليه العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ومن بعدهم من السلف الصالح، ويسبب التحول عن سبيلهم، ولقد سبق أن وجدت هذه الفكرة في خلافة بني العباس وعرضها أبو جعفر المنصور على الإمام مالك - رضي الله عنه - فردها وبين فسادها، فهي فكرة مرفوضة لدى السلف، ولا خير في شيء اعتبر في عهد السلف من المحدثات.
٢ - إن إلزام القضاة أن يحكموا بما يدعى أنه القول الراجح فيه حجر عليهم، وفصل لهم في قضائهم عن الكتاب والسنة، وعن التراث الفقهي