للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

و «" أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - استحلفه، فقال: " ما أردت إلا واحدة؟ (١)» فإن هؤلاء مجاهيل لا تعرف أحوالهم، وليسوا فقهاء، وقد ضعف حديثهم أحمد بن حنبل وأبو عبيد وابن حزم، وغيرهم، وقال أحمد ابن حنبل: حديث ركانة في ألبتة ليس بشيء، وقال أيضا: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته ألبتة؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس " أن ركانة طلق امرأته ثلاثا " وأهل المدينة يسمون " ثلاثا " ألبتة، فقد استدل أحمد على بطلان حديث ألبتة بهذا الحديث الآخر الذي فيه أنه طلقها ثلاثا، وبين أن أهل المدينة يسمون من طلق ثلاثا طلق ألبتة، وهذا يدل على ثبوت الحديث عنده، وقد بينه غيره من الحفاظ، وهذا الإسناد، وهو قول ابن إسحاق: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: هو إسناد ثابت عن أحمد وغيره من العلماء.

وبهذا الإسناد روى: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " رد ابنته زينب على زوجها بالنكاح الأول (٢)»، وصحح ذلك أحمد وغيره من العلماء وابن إسحاق إذ قال: حدثني فحديثه صحيح عند أهل الحديث، إنما يخاف عليه التدليس إذا عنعن، وقد روى أبو داود في سننه هذا عن ابن عباس من وجه آخر، وكلاهما يوافق حديث طاوس عنه، وأحمد كان يعارض حديث طاوس بحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثا، ونحوه.

وكان أحمد يرى جمع الثلاث جائزا، ثم رجع أحمد عن ذلك، وقال: تدبرت القرآن فوجدت الطلاق الذي فيه هو الرجعي، أو كما قال، واستقر مذهبه على ذلك، وعليه جمهور أصحابه، وتبين من حديث فاطمة أنها كانت مطلقة ثلاثا متفرقات لا مجموعة، وقد ثبت عنده حديثان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من جمع ثلاثا لم يلزمه إلا واحدة، وليس عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ما يخالف ذلك، بل القرآن يوافق ذلك، والنهي عنده يقتضي الفساد، فهذه النصوص والأصول الثابتة عنه تقتضي من مذهبه أنه لا يلزمه إلا واحدة، وعدوله عن القول بحديث ركانة وغيره كان أولا لما عارض ذلك عنده من جواز جمع الثلاث، فكان ذلك يدل على النسخ، ثم إنه رجع عن المعارضة وتبين له فساد هذا المعارض، وأن جمع الثلاث لا يجوز: فوجب على أصله العمل بالنصوص السالمة عن المعارض، وليس يعل حديث طاوس بفتيا ابن عباس بخلافه، وهذا علمه في إحدى الروايتين عنه، ولكن ظاهر مذهبه الذي عليه أصحابه أن ذلك لا يقدح في العمل بالحديث، لا سيما وقد بين ابن عباس عذر عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - في الإلزام بالثلاث، وابن عباس عذره هو العذر الذي ذكره عن عمر - رضي الله تعالى عنه -، وهو أن الناس لما تتابعوا فيما حرم الله تعالى عليهم استحقوا العقوبة على ذلك فعوقبوا بلزومه، بخلاف ما كانوا عليه قبل ذلك، فإنهم لم يكونوا مكثرين من فعل المحرم.

وهذا كما أنهم لما أكثروا شرب الخمر واستخفوا بحدها كان عمر يضرب فيها ثمانين، وينفي فيها، ويحلق الرأس، ولم يكن ذلك على عهد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وكما قاتل على بعض أهل القبلة ولم يكن ذلك على عهد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -، والتفريق بين الزوجين هو ما كانوا يعاقبون به أحيانا: إما مع بقاء النكاح، وإما بدونه، فالنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فرق بين الثلاثة الذين خلفوا وبين نسائهم حتى تاب الله عليهم من غير طلاق، والمطلق ثلاثا حرمت عليه امرأته حتى تنكح زوجا غيره عقوبة له ليمتنع


(١) سنن الترمذي كتاب الطلاق (١١٧٧)، سنن أبو داود الطلاق (٢٢٠٦)، سنن ابن ماجه الطلاق (٢٠٥١)، سنن الدارمي الطلاق (٢٢٧٢).
(٢) سنن الترمذي النكاح (١١٤٣)، سنن أبو داود الطلاق (٢٢٤٠)، سنن ابن ماجه النكاح (٢٠٠٩).