للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلت: وقد ذكره التلمساني رواية عن مالك، وهو قول محمد بن مقاتل الرازي من أئمة الحنفية حكاه عن المازني وغيره، وقد ذكر هذا رواية عن مالك، وكان يفتي بذلك أحيانا الشيخ أبو البركات ابن تيمية، وهو وغيره يحتجون بالحديث الذي رواه مسلم في صحيحه وأبو داود وغيرهما عن طاوس، عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر - رضي الله تعالى عنهما - طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم، وفي رواية: أنا أبا الصهباء قال لابن عباس هات من هناتك ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأمضاه عليهم وأجازه.

والذين ردوا هذا الحديث تأولوه بتأويلات ضعيفة، وكذلك كل حديث فيه: أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ألزم الثلاث بيمين أوقعها جملة، أو أن أحدا في زمنه أوقعها جملة فألزمه بذلك: مثل حديث يروى عن علي، وآخر عن عبادة بن الصامت، وآخر عن الحسن عن ابن عمر، وغير ذلك فكلها أحاديث ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة ويعرف أهل العلم بنقد الحديث أنها موضوعة، كما هو مبسوط في موضعه.

وأقوى ما ردوه به أنهم قالوا: ثبت عن ابن عباس من غير وجه أنه أفتى بلزوم الثلاث، وجواب المستدلين أن ابن عباس روى عنه من طريق عكرمة أيضا أنه كان يجعلها واحدة، وثبت عن عكرمة عن ابن عباس ما يوافق حديث طاوس مرفوعا إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وموقوفا على ابن عباس، ولم يثبت خلاف ذلك عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فالمرفوع «أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، فردها عليه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم (١)» -، قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده حدثنا سعيد بن إبراهيم، حدثنا أبي: عن ابن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: «طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - " كيف طلقتها؟ " قال: فقال طلقتها ثلاثا، قال: " في مجلس واحد "؟ قال: نعم، قال: " فإنها تلك واحدة فارجعها إن شئت " قال: فراجعها (٢)»، وكان ابن عباس يقول: إنما الطلاق عند كل طهر.

قلت وهذا الحديث قال فيه ابن إسحاق حدثني داود، وداود من شيوخ مالك ورجال البخاري، وابن إسحاق إذ قال، حدثني، فهو ثقة عند أهل البيت، وهذا إسناد جيد، وله شاهد من وجه آخر رواه أبو داود في السنن، ولم يذكر أبو داود هذا الطريق الجيد؛ فلذلك ظن أن تطليقة واحدة بائنا أصح، وليس الأمر كما قال، بل الإمام أحمد رجح هذه الرواية على تلك وهو كما قال أحمد، وقد بسطنا الكلام على ذلك في موضع آخر.

وهذا المروي عن ابن عباس في حديث ركانة من وجهين، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس من وجهين عن عكرمة، وهو أثبت من رواية عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، ونافع بن عجير: أنه طلقها ألبتة،


(١) سنن الترمذي كتاب الطلاق (١١٧٧)، سنن أبو داود الطلاق (٢٢٠٨)، سنن ابن ماجه الطلاق (٢٠٥١)، سنن الدارمي الطلاق (٢٢٧٢).
(٢) مسند أحمد بن حنبل (١/ ٢٦٥).