للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لا بما رأوه وفهموه، وقد ترك جمهور العلماء قول ابن عمر الذي فسر به قوله: " فاقدروا له "، وترك مالك وأبو حنيفة وغيرهما تفسيره لحديث «" البيعان بالخيار (١)» مع أن قوله هو ظاهر الحديث، وترك جمهور العلماء تفسيره لقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (٢)، وقوله نزلت هذه الآية في كذا، وكذلك إذا خالف الراوي ما رواه، كما ترك الأئمة الأربعة وغيرهم قول ابن عباس: أن بيع الأمة طلاقها، مع أنه روى حديث بريرة وأن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - خيرها بعد أن بيعت وعتقت، فإن الاعتبار بما رووه، لا ما رأوه وفهموه.

ولما ثبت عندهم عن أئمة الصحابة أنهم ألزموا بالثلاث المجموعة قالوا: لا يلزمون بذلك إلا وذلك مقتضى الشرع، واعتقد طائفة لزوم هذا الطلاق وأن ذلك إجماع، لكونهم لم يعلموا خلافا ثابتا، لا سيما وصار القول بذلك معروفا عن الشيعة الذين لم ينفردوا عن أهل السنة بحق.

تقال المستدلون: هؤلاء الذين هم بعض الشيعة وطائفة من أهل الكلام يقولون جامع الثلاث لا يقع به شيء: هذا القول لا يعرف عن أحد من السلف، بل قد تقدم الإجماع على بعضه، وإنما الكلام هل يلزمه واحدة؟ أو يقع ثلاث؟ والنزاع بين السلف في ذلك ثابت لا يمكن رفعه، وليس مع من جعل ذلك شرعا لازما للأمة حجة يجب اتباعها: من كتاب ولا سنة، ولا إجماع، وإن كان بعضهم قد احتج على هذا بالكتاب، وبعضهم بالسنة، وبعضهم بالإجماع، وقد احتج بعضهم بحجتين أو أكثر من ذلك، لكن المنازع يبين أن هذه كلها حجج ضعيفة، وأن الكتاب والسنة والاعتبار إنما تدل على نفي اللزوم، وتبين أنه لا إجماع في المسألة، بل الآثار الثابتة عمن ألزم بالثلاث مجموعة عن الصحابة تدل على أنهم لم يكونوا يجعلون ذلك مما شرعه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لأمته شرعا لازما، كما شرع تحريم المرأة بعد الطلقة الثالثة، بل كانوا مجتهدين في العقوبة بإلزام ذلك إذا كثر، ولم ينته الناس عنه.

وقد ذكرت أن الألفاظ المنقولة عن الصحابة تدل على أنهم ألزموا بالثلاث لمن عصى الله تعالى بإيقاعها جملة، فأما من كان يتقي الله فإن الله يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (٣) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (٤). فمن لا يعلم التحريم حتى أوقعها، ثم لما علم التحريم تاب والتزم أن لا يعود إلى المحرم، فهذا لا يستحق أن يعاقب، وليس في الأدلة الشرعية: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ما يوجب لزوم الثلاث له، ونكاحه ثابت بيقين، وامرأته محرمة على الغير بيقين، وفي التزامه بالثلاث إباحتها للغير مع تحريمها عليه وذريعة إلى نكاح التحليل الذي حرمه الله ورسوله.


(١) صحيح البخاري البيوع (٢٠٧٩)، صحيح مسلم البيوع (١٥٣٢)، سنن الترمذي البيوع (١٢٤٦)، سنن النسائي البيوع (٤٤٦٤)، سنن أبو داود البيوع (٣٤٥٩)، مسند أحمد بن حنبل (٣/ ٤٠٢)، سنن الدارمي البيوع (٢٥٤٧).
(٢) سورة البقرة الآية ٢٢٣
(٣) سورة الطلاق الآية ٢
(٤) سورة الطلاق الآية ٣