للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

و" نكاح التحليل " لم يكن ظاهرا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، ولم ينقل قط أن امرأة أعيدت بعد الطلقة الثالثة على عهدهم إلى زوجها بنكاح تحليل، بل: «" لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له (١)»: «" ولعن آكل الربا، وموكله وشاهديه وكاتبه (٢)»، ولم يذكر في التحليل الشهود ولا الزوجة ولا الوالي؛ لأن التحليل الذي كان يفعل كان مكتوما بقصد المحلل، أو يتواطأ عليه هو والمطلق المحلل له، والمرأة ووليها لا يعلمون قصده ولو علموا لم يرضوا أن يزوجوه؛ فإنه من أعظم المستقبحات والمنكرات عند الناس؛ ولأن عاداتهم لم تكن بكتابة الصداق في كتاب، ولا إشهاد عليه، بل كانوا يتزوجون ويعلنون النكاح، ولا يلتزمون أن يشهدوا عليه شاهدين وقت العقد، كما هو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإشهاد على النكاح حديث صحيح، هكذا قال أحمد بن حنبل وغيره.

فلما لم يكن على عهد عمر - رضي الله تعالى عنه - تحليل ظاهر، ورأى في إنفاذ الثلاث زجرا لهم عن المحرم: فعل ذلك باجتهاده - أما إذا كان الفاعل لا يستحق العقوبة، وإنفاذ الثلاث يفضي إلى وقوع التحليل المحرم بالنص وإجماع الصحابة، والاعتقاد وغير ذلك من المفاسد، لم يجز أن يزال مفسدة حقيقة بمفاسد أغلظ منها، بل جعل الثلاث واحدة في مثل هذا الحال كما كان على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر أولى، ولهذا كان طائفة من العلماء مثل أبي البركات يفتون بلزوم الثلاث في حال دون حال، كما نقل عن الصحابة، وهذا: إما لكونهم رأوه من " باب التعزير " الذي يجوز فعله بحسب الحاجة، كالزيادة على أربعين في الخمر والنفي فيه، وحلق الرأس، وإما لاختلاف اجتهادهم: فرأوه تارة لازما وتارة غير لازم.

وبالجملة فما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته " شرعا لازما " إنما لا يمكن تغييره لأنه لا يمكن نسخ بعد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -، ولا يجوز أن يظن بأحد من علماء المسلمين أن يقصد هذا، ولا سيما الصحابة، لا سيما الخلفاء الراشدون، وإنما يظن ذلك في الصحابة أهل الجهل والضلال: كالرافضة والخوارج الذين يكفرون بعض الخلفاء أو يفسقونه، ولو قدر أن أحد فعل ذلك لم يقره المسلمون على ذلك، فإن هذا إقرار على أعظم المنكرات، والأمة معصومة أن تجتمع على مثل ذلك، وقد نقل عن طائفة: كعيسى بن أبان وغيره من أهل الكلام والرأي من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة ومالك: أن الإجماع ينسخ به نصوص الكتاب والسنة.

وكنا نتأول كلام هؤلاء على أن مرادهم أن الإجماع يدل على نص ناسخ، فوجدنا من ذكر عنهم أنهم يجعلون الإجماع نفسه ناسخا، فإن كانوا أرادوا ذلك فهذا قول يجوز تبديل المسلمين دينهم بعد نبيهم، كما تقول النصارى من: أن المسيح سوغ لعلمائهم أن يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحة، ويحلوا ما رأوا تحليله مصلحة، وليس هذا دين المسلمين، ولا كان الصحابة يسوغون ذلك لأنفسهم، ومن اعتقد في الصحابة أنهم كانوا يستحلون ذلك، فإنه يستتاب كما يستتاب أمثاله، ولكن يجوز أن يجتهد الحاكم والمفتي فيصيب فيكون له أجران، ويخطئ فيكون له أجر واحد.


(١) سنن الترمذي النكاح (١١١٩)، سنن أبو داود النكاح (٢٠٧٦)، سنن ابن ماجه النكاح (١٩٣٥)، مسند أحمد بن حنبل (١/ ٨٧).
(٢) صحيح البخاري اللباس (٥٩٦٢)، مسند أحمد بن حنبل (٤/ ٣٠٨).