للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وما شرعه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - " شرعا معلقا بسبب " إنما يكون مشروعا عند وجود السبب: كإعطاء المؤلفة قلوبهم؛ فإنه ثابت بالكتاب والسنة، وبعض الناس ظن أن هذا نسخ، لما روي عن عمر: أنه ذكر أن الله أغنى عن التآلف، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهذا الظن غلط، ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه لا لنسخه، كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل، والغارم ونحو ذلك.

و" متعة الحج " قد روي عن عمر أنه نهى عنه، وكان ابنه عبد الله بن عمر وغيره يقولون: لم يحرمها، وإنما قصد أن يأمر الناس بالأفضل، وهو أن يعتمر أحدهم من دويرة أهله في غير أشهر الحج؛ فإن هذه العمرة أفضل من عمرة المتمتع والقارن باتفاق الأئمة، حتى أن مذهب أبي حنيفة وأحمد منصوص عنه: أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج وأفرد الحج في أشهره: فهذا أفضل من مجرد التمتع والقران، مع قولهما بأنه أفضل من الإفراد المجرد، ومن الناس من قال: إن عمر أراد فسخ الحج إلى العمرة، قالوا: إن هذا محرم به ولا يجوز، وأن ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من الفسخ كان خاصا بهم، وهذا قول كثير من الفقهاء: كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وآخرون من السلف والخلف قابلوا هذا، وقالوا: بل الفسخ واجب، ولا يجوز أن يحج أحد إلا متمتعا: مبتدئا أو فاسخا، كما أمر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أصحابه في حجة الوداع، وهذا قول ابن عباس وأصحابه ومن اتبعه من أهل الظاهر والشيعة، و " القول الثالث " أن الفسخ جائز، وهو أفضل ويجوز أن لا يفسخ، وهو قول كثير من السلف والخلف: كأحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث، ولا يمكن الإنسان أن يحج حجة مجمعا عليها إلا أن يحج متمتعا ابتداء من غير فسخ.

فأما حج المفرد والقارن: ففيه نزاع معروف بين السلف والخلف، كما تنازعوا في جواز الصوم في السفر، وجواز الإتمام في السفر، ولم يتنازعوا في جواز الصوم والقصر في الجملة.

وعمر لما نهى عن المتعة خالفه غيره من الصحابة، كعمران بن حصين، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وغيرهم، بخلاف نهيه عن متعة النساء؛ فإن عليا وسائر الصحابة وافقوه على ذلك، وأنكر علي على ابن عباس إباحة المتعة، قال: «إنك امرؤ تائه، إن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - حرم متعة النساء، وحرم لحوم الحمر الأهلية عام خيبر (١)»، فأنكر علي بن أبي طالب على ابن عباس إباحة الحمر، وإباحة متعة النساء؛ لأن ابن عباس كان يبيح هذا وهذا، فأنكر عليه علي ذلك، وذكر له: «" أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم حرم المتعة، وحرم الحمر الأهلية (٢)» ويوم خيبر كان تحريم الحمر الأهلية. . وأما تحريم المتعة، فإنه عام فتح مكة، كما ثبت ذلك في الصحيح، وظن بعض الناس أنها حرمت، ثم أبيحت، ثم حرمت، فظن بعضهم أن ذلك ثلاثا، وليس الأمر كذلك.

فقول عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -: " إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت له فيه أناة فلو أنفذنا عليهم فأنفذه عليهم: هو بيان أن الناس أحدثوا ما استحقوا عنده أن ينفذ عليهم الثلاث، فهذا


(١) صحيح مسلم النكاح (١٤٠٦)، سنن النسائي النكاح (٣٣٦٨)، سنن أبو داود النكاح (٢٠٧٣)، سنن ابن ماجه النكاح (١٩٦٢)، مسند أحمد بن حنبل (٣/ ٤٠٥)، سنن الدارمي النكاح (٢١٩٥).
(٢) صحيح البخاري النكاح (٥١١٥)، صحيح مسلم النكاح (١٤٠٧)، سنن الترمذي النكاح (١١٢١)، سنن النسائي النكاح (٣٣٦٥)، سنن ابن ماجه النكاح (١٩٦١)، مسند أحمد بن حنبل (١/ ١٤٢)، سنن الدارمي النكاح (٢١٩٧).