للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والصحيح ما ذهب إليه مالك - رحمه الله تعالى - لأنه إذا ضيق عليها حتى تفتدي منه، فقد أخذ مالها بغير طيب نفس، ولم يبح الله ذلك إلا عن طيب نفسها فقال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (١) والآية التي احتجوا بها لا حجة لهم فيها، لأن الفاحشة المبينة من جهة النطق أن تبذو عليه وتشتم عرضه وتخالف أمره لأن كل فاحشة أتت في القرآن منعوتة بمبينة فهي وكل فاحشة أتت فيه مطلقة فهي الزنا. والاستثناء المذكور فيها منفصل فمعني الآية: لكن إن نشزت عليكم وخالفت أمركم حل لكم ما ذهبتم به من أموالهن. معناه: إذا كان ذلك عن طيب أنفسهن. ولا يكون ذلك عن طيب أنفسهن إلا إذا لم يكن منهم إليهن ضرر ولا تضييق. فعلى هذا التأويل تتفق أي القرآن ولا تتعارض وقد قيل في تأويل الآية غير هذا. وهذا أحسن وذهب إسماعيل القاضي إلى أن الخلع يجوز، ويسوغ للزوج ما أخذ منه على الطلاق إذا كان النشوز والكراهية منها.

وإذا خافا أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به. وليس قوله مخالفا لما حكيناه عن مالك وأصحابه: من أن الخلع لا يجوز للزوج وإن كرهته المرأة ونشزت عليه وأضرت به إذا قارضها على بعض ذلك لأنه إنما حمل المخالفة على بابها فأباح الفدية قبل وقوع ما خافاه أن يقع ما ذكر وخاف كل واحد منهما صاحبه، هو إن أمسكها أن لا يقيم حدود الله فيها من أجل كراهته إياها. وخافت هي أن لا تقوم بما يلزمها من حقه فخالفته مخالفة الإثم والحرج فقد أعطته مالها على الطلاق طيبة به نفسها إذا لم يضطرها إلى ذلك بإضرار كان منه إليها.

وأما ابن بكير فإنما حمل الخوف المذكور في الآية على العلم إلا أنه ذهب إلى أن الخطاب فيها إنما هو للولاة كآية التحكيم سواء، فقال: تقدير الكلام فإن خفتم يا ولاة أن لا يقيم الزوجان حدود الله فيما بينهما فلا جناح عليكم فيما أخذتم من مالها وفرقتم بينهما، فالاختلاف بينه وبين أبي بكير إنما هو في تأويل الآية لا في الموضع الذي يجوز فيه الخلع من الذي لا يجوز فيه، ولا اختلاف في المذهب أن الزوج يجوز له أن يأخذ من زوجته شيئا على طلاقها إذا كان النشوز من قبلها ولم يكن منه في ذلك ضرر إليها، إذ ليس له أن يقارضها على نشوزها عليه بالإضرار لها والتضييق عليها حتى تفتدي منه لقول الله عز وجل {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (٢) وإنما له أن يعظها فإن اتعظت وإلا هجرها في المضاجع فإن اتعظت وإلا ضربها ضربا غير مبرح فإن أطاعته فلا يبغي عليها سبيلا لقول الله عز وجل {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} (٣) فإن هي بذلت له على ألف، حل له أن يقبله إذا لم يتعد أمر الله فيها (٤) اه المقصود (٥).


(١) سورة النساء الآية ٤
(٢) سورة النساء الآية ١٩
(٣) سورة النساء الآية ٣٤
(٤) الموجود في المطبوع المنقول عنه (إذا لم يتعد أمر فيها الله) وهو ظاهر الخطأ.
(٥) المقدمات لابن رشد ج٢ ص٢٥٢ - ٢٥٤.