للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال: وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وأبي سلمة وطاوس وإبراهيم قالوا: ما قضى به الحكمان من شيء فهو جائز، وهذا عندنا كذلك أيضا ولا دلالة فيه على موافقة قوله لأنهم لم يقولوا إن فعل الحكمين في التفريق والخلع جائز بغير رضى الزوجين بل جائز أن يكون مذهبهم أن الحكمين لا يملكان التفريق إلا برضى الزوجين بالتوكيل ولا يكونان حكمين إلا بذلك، ثم ما حكما بعد ذلك من شيء فهو جائز. وكيف يجوز للحكمين أن يخلعا بغير رضاه، ويخرجا المال عن ملكها، وقد قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (١) وقال تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (٢).

وهذا الخوف المذكور ههنا هو المعنى بقوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (٣) وحظر الله على الزوج أخذ شيء مما أعطاها إلا على شريطة الخوف منهما ألا يقيما حدود الله، فأباح حينئذ أن تفتدي بما شاءت وأحل للزوج أخذه، فكيف يجوز للحكمين أن يوقعا خلعا أو طلاقا من غير رضاهما وقد نص الله تعالى على أنه لا يحل له أخذ شيء مما أعطي إلا بطيبة من نفسها ولا أن تفتدي به، فالقائل بأن للحكمين أن يخلعا بغير توكيل من الزوج مخالف لنص الكتاب، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (٤) فمنع كل أحد أن يأكل مال غيره إلا برضاه، وقال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (٥) فأخبر تعالى أن الحاكم وغيره سواء في أنه لا يملك أخذ مال أحد ودفعه إلى غيره. وقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه (٦)» وقال - صلى الله تعالى عليه وسلم -: «فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار (٧)» فثبت بذلك: أن الحاكم لا يملك أخذ مالها ودفعه إلى زوجها ولا يملك إيقاع طلاق على الزوج بغير توكيله ولا رضاه وهذا حكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في أنه لا يجوز للحاكم في غير ذلك من الحقوق إسقاطه ونقله عنه إلى غيره من غير رضى من هو له. فالحكمان إنما يبعثان للصلح بينهما وليشهدا على الظالم منهما، كما روى سعيد عن قتادة في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} (٨) الآية. قال إنما يبعث الحكمان ليصلحا، فإن أعياهما أن يصلحا شهدا على الظالم بظلمه وليس بأيديهما الفرقة ولا يملكان ذلك وكذلك روى عن عطاء.


(١) سورة النساء الآية ٤
(٢) سورة البقرة الآية ٢٢٩
(٣) سورة النساء الآية ٣٥
(٤) سورة النساء الآية ٢٩
(٥) سورة البقرة الآية ١٨٨
(٦) مسند أحمد بن حنبل (٥/ ٧٣).
(٧) صحيح البخاري الحيل (٦٩٦٧)، صحيح مسلم الأقضية (١٧١٣)، سنن النسائي آداب القضاة (٥٤٠١)، سنن أبو داود الأقضية (٣٥٨٣)، سنن ابن ماجه الأحكام (٢٣١٧)، موطأ مالك الأقضية (١٤٢٤).
(٨) سورة النساء الآية ٣٥