قليل الماء ينجس بقليل النجاسة، ولم يحدوا ذلك بقلتين.
وجمهور أهل المدينة أطلقوا القول؛ فهؤلاء لا ينجسون شيئا إلا بالتغير، ومن سوى بين الماء والمائعات، كإحدى الروايتين عن أحمد، وقال بهذا القول الذي هو رواية عن أحمد، قال في المائعات كذلك، كما قاله الزهري وغيره؛ فهؤلاء لا ينجسون شيئا من المائعات إلا بالتغير، كما ذكره البخاري في صحيحه، لكن على المشهور عن أحمد اعتبار القلتين في الماء. وكذلك في المائعات إذا سويت به، فنقول: إذا وقع في المائع القليل نجاسة فصب عليه مائع كثير، فيكون الجميع طاهرا إذا لم يكن متغيرا، وإن صب عليه ماء قليل دون القلتين، وصار الجميع كثيرا فوق القلتين؛ ففي ذلك وجهان في مذهب أحمد.
(أحدهما) وهو مذهب الشافعي في الماء: أن الجميع طاهر.
(والوجه الثاني) أنه لا يكون طاهرا، حتى يكون المضاف كثيرا، والمكاثرة المعتبرة أن يصب الطاهر على النجس، ولو صب النجس على الطاهر الكثير كان كما لو صب الماء النجس على ماء كثير طاهر أيضا، وذلك مطهر له، إذا لم يكن متغيرا، وإن صب القليل الذي لاقته النجاسة على قليل لم تلاقه النجاسة، وكان الجميع كثيرا فوق القلتين كان كالماء القليل إذا ضم إلى القليل.
وفي ذلك الوجهان المتقدمان، وهذا القول الذي ذكرناه في المائعات كالماء هو الأظهر في الدلالة، بل لو نجس القليل من الماء لم يلزم تنجس الأشربة والأطعمة، ولهذا أمر مالك بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الماء القليل، كما جاء في الحديث، ولم يأمر مالك بإراقته من الأطعمة والأشربة، واستعظم إراقة الطعام والشراب بمثل ذلك، وذلك لأن الماء لا ثمن له في العادة، بخلاف أشربة المسلمين وأطعمتهم؛ فإن في نجاستها من المشقة والحرج ما لا يخفى على الناس، وقد تقدم أن جميع الفقهاء يعتبرون رفع الحرج في هذا الباب، فإذا لم ينجسوا الماء الكثير للحرج فكيف ينجسون نظيره من الأطعمة والأشربة والحرج في ذلك أشق؟! ولعل المائعات الكثيرة لا تكاد تخلو من نجاسة.
(فإن قيل): الماء يدفع النجاسة عن غيره، فعن نفسه أولى وأحرى بخلاف المائعات.
(قيل): الجواب من وجوه (أحدها) أن الماء إنما دفعها عن غيره؛ لأنه يزيلها عن ذلك المحل وتنتقل معه، فلا يبقى على المحل نجاسة، وأما إذا سقطت فيه فإنما كان طاهرا لاستحالتها فيه، لا لكونه أزالها عن