والأحكام التشريعية لا تبني على الأوصاف غير المنضبطة، وإنما قد تبني عليها الأحكام الخلقية، وهكذا فلا يمكن تصور قانون يصدر معتمدا في بناء أحكامه على مجرد الحكمة بما هي وصف غير منضبط، والإسلام ليس فقط عقيدة أو أحكاما متعلقة بالضمير، وإنما هو شريعة وقانون، وهذا هو السبب في أن القاعدة الأصولية اعتبرت العلة مناطا للحكم، ولم تعتبر الحكمة، والعلة في فقه القواعد الأصولية وصف منضبط.
٩ - إن كل ما تقدم يفسر أن المفهوم الشائع والمعروف للربا عند جميع الشعوب وفي مختلف العصور لم يعرف مثل هذه التفرقة التي أسست عليها المحاولة، وغرابة الفكرة كافية لعدم الانخداع بالبريق الشكلي لها.
لقد كنت أظن أن الدكتور معروف الدواليبي بعد أن اطلع على نقد الناقدين لمحاولته وتبينه عدم صحة الأساس الذي بنيت عليه قد تخلى عنها، ويبدو أن هذا قد حصل فعلا، ولكن بطريقة غريبة؛ إذ يبدو أنه بعد اطلاعه على مصادر الحق للدكتور السنهوري حاول أن يرقع محاولته بالأخذ بالمحاولات الأخرى التي شرحها كتاب مصادر الحق. إن هذا ما يظهر من بحث د. الدواليبي المنشور والمتداول بعنوان " حول موقف الشريعة من المصارف "الأحكام والقواعد العامة الشرعية ".
فقد استند إلى محاولة الشيخ محمد رشيد رضا المنوه عنها آنفا بادعاء أن الربا المحرم هو الربا الذي يعقد بعد حلول دين سابق؛ لتأجيل هذا الدين بعد حلوله، وقد سمى د. معروف هذا الربا ب "الربا القرآني! ".
كما أخذ بالفكرة التي بنيت عليها محاولة الدكتور السنهوري التي سيأتي الكلام عنها لاحقا، وذلك بادعاء أن الربا الذي يسميه "الربا القرآني " هو المحرم تحريم الغايات، وأن ما عداه من أنواع الربا محرم تحريم وسائل؛ لقد صنع د. معروف مثل ما يصنع الطبيب الذي لا يتبين له عند الكشف على مريضه طبيعة المرض، وإنما تقوم لديه احتمالات ثلاثة مثلا فيصرف لمريضه ثلاثة أدوية