المضيئة قبس الحب لهذه الإنسانة (الأم) فيخلدها في كل طور من أطوار الزمن. . وفي كل جيل من أجيال التاريخ؟ إن المتصفح لتاريخ النبوة. . وما كان عليه الرسول في هذه المجالات لا يستطيع أمام هذا الطوفان الزاخر من اهتماماته الرائعة بالأمومة إلا أن يرجع بآصرة النسب بينهما إلى وشائج أقوى من وشائج اللحم والدم. . لأن محمدا لم يرتفع بالحديث عن كائن بشري كما ارتفع به عن الأمومة. . وكأنما كان يمنح فيه من معين لا ينضب، أو يقتبس فيه من جذوة لا تخبو مع الأيام!
وفي ظلال من رحلة تلمسنا فيها جذور هذه العاطفة، وأغوار هذا الوجدان، لا نستطيع أن ننفصل عن حتمية العودة إلى طفولة محمد، لنرى كيف كانت أمه آمنة بنت وهب إلى جواره؟ هل كانت نبع عطف، وغدير إيمان، فغمرت وليدها البازغ في بهاء ذلك العطف، وصفاء هذا الإيمان، حتى استحال كيانه كله، إلى نبضات خافقة بحب الأمومة، وخلجات هامسة بما لها على الإنسانية من فضل تتضاءل حياله الأفضال؟ أم ماذا؟
ها نحن مع مطالع بزوغ هذا الفجر. . مع محمد جنينا في بطن أمه. . مع إحساساتها الطافرة نحو هذا الجنين الذي ما زال يغالب التيار في ظلمة المجهول. مع حديثها الوامض عن هذه المرحلة من مراحل حملها بالنبي. . قالت لحليمة السعدية ذات يوم: والله ما للشيطان عليه يا حليمة من سبيل وإن لابني هذا لشأنا. . أفلا أخبرك خبره. .؟
فهتفت حليمة: أجل. . قولي يا آمنة. .
فانهمرت أم النبي تقول: والله ما رأيت من حمل قط كان أخف من حمله ولا أيسر منه. .
إذا فالصداقة معقودة بين محمد وأمه حتى قبل أن يعانق محمد أضواء الوجود. .
وحين ولدته يا حليمة وقع وإنه لواضع يديه على الأرض، رافع رأسه إلى السماء. . أرأيت؟
إن أم النبي كانت ترى في الطفل صورة الرسول. . إن إحساسها العارم بتفوق الوليد الجديد قد أثرى إحساسها النابض بالحب. . وأذكى مشاعرها الأمومية البيضاء. . إلا أننا نجرم في جانب الحقيقة حينما نحصر