الحديث عن أم النبي في هذا الإطار. . إطار المشاعر الحلوة، والعواطف الدافئة، والأحاسيس المنهمرة الثرة. . فما أكثر ما تنساب كل هذه الطاقات الهائلة بين الطفل الصاعد وأمه الرائمة. .
فلنثب بالحديث إلى عالم آخر فنتساءل: هل كان لأم النبي دور في تربيته وصقله، وإعداده لما ينتظره من دور على مسرح الوجود؟
الذي أعرفه أن آمنة أم النبي كانت مثلا رائعا للأمومة الحية النابضة. . تعهدت الطفل النبي منذ غضارته، فحدثته عن أبيه وعن روعة حياته. . كيف كان أملا مرجى. . وأسطورة فذة للرجولة، والمجد، والجمال. . حدثته عن قصة الفداء المذهلة، وكيف أن عيون قريش كلها كانت تقطر دما. . وهي تنظر من بعيد إلى شبح الموت القادم في ضوء النهار ليطوي تحت جناحيه الداكنين شباب عبد الله. . وكيف أن هذه العيون الدامعة احتشدت من بعد بالفرحة، وتألقت بأغاريد الخلاص. .
وما زالت به هكذا حتى السادسة، تصب في أذنيه ملاحم القوة، وأناشيد البطولة وذكريات الفداء. . حتى استوت للطفل الواعد شخصية تنبئ عن غد رجولي باسل. . وفريد. . وحين شارف هذه السن، ورأت فيه بوادر النضوج والاكتمال. . أصرت - لأن الدور هكذا يحتم عليها - أن تزور به قبر أبيه. . وتألقت دمعات الفرح على وجنتي الصبي أنه سيرى القبر الذي يرقد فيه الحنان الأعظم. . سيرى قبر أبيه الذي لم يره. . والذي طالما حدثته عن أيامه ولياليه أمه الساهرة على كلاءته. . سيرى أخواله هناك، في يثرب ستتوشج أواصر جديدة بينه وبين طفولات كثيرة. . فليذهب إذا. . وذهبا. .
وأخذت الأم وليدها لتريه البيت الذي مرض فيه أبوه. . والقبر الذي دفن فيه. وهي بين الفينة والفينة تختلس نظرات نافذة إلى طفلها الساهم، لعلها تريد أن تقرأ ما يجيش في داخله من خيالات. . وما تركته تلك الرحلة في أعماقه من انطباعات كل ذلك والفتى ساهم. . واجم. . كأنه يعايش بنظراته الذهلى من ثوى خلف هذا الركام. . أو كأنه يطالع في صمت روعة المعجزة التي فجرت من هذا الحفير الدارس المتواضع تاريخا سيحول التاريخ.
وعادت بمحمد أمه. . وانطلقت القافلة الصغيرة تضرب في بطون الأودية وشعاب الجبال. . ولكن الأم ما تزال صامتة. . كأنها خرساء. . إنها تعانق الأفق البعيد بنظرة ولهى. . بينما يذبل الربيع في وجهها الغارب شعاعا من وراء شعاع!! وحين تخاذلت ذراعاها عن صدر الفتى المبهور. . تلفت إليها فيما يشبه الروع. . فضمته إليها في حنان راعش راعب مقرور. ثم انطلقت في خفوت واهن تتمتم: (كل حي