للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ميت. . وكل جديد بال. . وكل كبير يفنى. . وأنا ميتة. . وذكري باق. . فقد تركت خيرا. . وولدت طهرا) ثم طواها بعد ذلك صمت أبدي رهيب. .!

وحفرت هذه اللحظات الحزينة المتألمة في أعماق النبي صورة لا تبهت، وانطباعا شاخصا لا يريم. . فعاش حياته كلها في إطار من هذه اللحظات الغائمة، ترتجف أعماقه كلما خايلته الذكرى، أو تخالجه ذهول الموقف المحموم. (١).

وما زال محمد يردد في كلماته صدى ما عاش في ضميره من عذابات. . فحين يرى دار بني عدي بن النجار بعد الهجرة ينساب في ألم يقول: هاهنا نزلت بي أمي. . وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله. . وحين يمر بالأبواء في عمرة الحديبية يقول: «إن الله أذن لمحمد في زيارة قبر أمه (٢)» فأتاه فأصلحه، وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكائه، فقيل له في ذلك فقال: (أدركتني رحمتها فبكيت. .).

ويروي عبد الله بن مسعود: «خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما وخرجنا معه، حتى انتهينا إلى المقابر، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها، فجلس إليه فناجاه طويلا، ثم ارتفع صوته ينتحب باكيا! فبكينا لبكاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أن رسول الله أقبل إلينا فتلقاه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: ما الذي أبكاك يا رسول الله فقد أبكانا وأفزعنا؟ فأخذ بيد عمر، ثم أومأ إلينا فأتيناه، فقال: (أفزعكم بكائي؟؟ قلنا: نعم يا رسول الله. . فقال ذلك مرتين أو ثلاثا. . ثم قال: إن القبر الذي رأيتموني أناجيه قبر أمي آمنة بنت وهب. . وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي». .!.

وكما كان محمد يقدس الأمومة في أمه. . فكذلك كان في موقفه من كل الأمومات لقد انعكس حبه الغامر لأمه الراحلة. . على كل أم في هذا الوجود. . فدأب على توعية الملايين بما للأمومة من حرمة، وما لمكانتها من جلال. . يتألق ذلك في تكريمه الموصول لمرضعته (ثويبة) مولاة أبي لهب. . فكان يصلها وهو بمكة. . فلما هاجر إلى المدينة كان يبعث إليها بصلة وكسوة. . إلى أن ماتت، فلما دخل مكة ظافرا لم تنسه نشوة النصر أن يسأل ما فعل ابنها مسروح؟

وكذلك كان تكريمه لحاضنته (أم أيمن) التي رافقته وأمه إلى يثرب. . وكان إذا رآها قال: «هي أمي. . بعد أمي». . .

ولما ماتت فاطمة. . أم علي بن أبي طالب. . ألبسها قميصه واضطجع معها في قبرها فقال له أصحابه: ما رأيناك صنعت بأحد ما صنعت بها؟ فقال: «إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبر بي منها. . إني إنما ألبستها قميصي لتكسى حلل الجنة. . واضطجعت معها في قبرها ليهون عليها». . .


(١) راجع كتاب (أم النبي) للدكتورة بنت الشاطئ، وتاريخ مكة للأزرقي والسيرة الحلبية وصحيح مسلم.
(٢) سنن الترمذي الجنائز (١٠٥٤).