استمرت الحال والشدة على الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة.
وجرى ما جرى في حصاره في شعب أبي طالب وغير هذا من الأذى، ثم إن الله جل وعلا بعد ذلك أذن له بالهجرة إلى المدينة بعدما يسر الله له من الأنصار من يساعده ويحميه ويؤويه، فإن الأنصار -رضي الله عنهم وأرضاهم- من الأوس والخزرج لما بلغتهم الدعوة اتصلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واجتمعوا به عند العقبة في منى مرات، ثم في المرة الأخيرة بايعوه، بايعه منهم جماعة فوق السبعين، فبايعوه على الإسلام وعلى أن ينصروه ويحموه مما يحموا منه نساءهم وذرياتهم، وطلبوا منه أن يهاجر إليهم، فوافق على ذلك عليه الصلاة والسلام، وأذن لأصحابه بالهجرة، ثم انتظر أمر ربه، فأذن الله له بعد ذلك فهاجر إلى المدينة، فلله الحمد والمنة.
وكان صلى الله عليه وسلم في مكة -كما هو معلوم- لم يكن يجاهدهم باليد ولا بالسيف، ولكنه كان يجاهد بالدعوة والتوجيه والإرشاد والتبصير والعظة والتذكير وتلاوة القرآن كما قال الله تعالى:{وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}(١) وهكذا كان أصحابه صلى الله عليه وسلم الذين بقوا في مكة كانوا هكذا إذا تمكنوا من الدعوة بذلوها لمن يتصل بهم في التوجيه والإرشاد والنصيحة، ولكن مع هذا كله فالمسلمون قليلون والكفار أكثر، ولهم السلطة ولهم اليد في مكة، ولهذا قال الشاعر، ويروى ذلك لحسان رضي الله عنه:
دعا المصطفى دهرا بمكة لم يجب ... وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف صلت بكفه ... له أسلموا واستسلموا وأنابوا
هكذا كانت الحال بمكة، إنما أجاب القليل وامتنع الأكثرون بسبب المآكل والرئاسة والكبر والحسد والبغي، لا عن جهل بالحق، ولا عن رغبة في الباطل؛ لأنهم يعرفون أنه رسول الله وأنه صادق، وكانوا يسمونه الأمين عليه