للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أسدل على الجريمة، فيقتص من المجرم، ولولا ذلك لأفلت من العقاب وبقي بين الناس جرثومة فساد.

وهنا قد يثار حديث كرامة جسم الإنسان وما في كشفه وتشريحه من هوان، فيظن جاهل أنه لا يجوز مهما كانت بواعثه، ولكن بقليل من التأمل في قواعد الشريعة يعلم أن مدار الأحكام الشرعية على رعاية المصالح والمفاسد، فما كان فيه مصلحة راجحة يؤمر به، وما كان فيه مفسدة راجحة ينهى عنه، فلا شك أن الموازنة بين ما في التشريح من هتك حرمة الجثة وما له من المصلحة في التطبيب والعلاج وتحقيق العدالة وإنقاذ البريء من العقاب وإثبات التهمة على المجرم الجاني تنادي برجحان هذه المصالح على تلك المفسدة.

ثم أتبع فتواه بفتوى في موضوع التشريح لفضيلة الشيخ يوسف الدجوي:

قال: وقد اطلعت بعد كتابة هذا على فتوى في هذا الموضوع لشيخنا العلامة المحقق الشيخ يوسف الدجوي رحمه الله قال فيها ما نصه:

وليس عندنا في كتب الفقه نصوص شافية في هذا الموضوع، وقد يظن ظان أن ذلك محرم لا تجيزه الشريعة التي كرمت الآدمي وحثت على إكرامه، وأمرت بعدم إيذائه، ولكن العارف بروح الشريعة وما تتوخاه من المصالح وترمي إليه من الغايات، يعلم أنها توازن دائما بين المصلحة والمفسدة، فتجعل الحاكم لأرجحهما على ما تقتضيه الحكمة ويوجبه النظر الصحيح، فيجب إذن أن يكون نظرنا بعيدا متمشيا مع المصلحة الراجحة التي تتفق وروح الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان، الكفيلة بسعادة الدنيا والآخرة، وإذن نقول: إن من نظر إلى أن التشريع قد يكون ضروريا في بعض الظروف كما إذا اتهم شخص بالجناية على آخر وقد يبرأ من التهمة عندما يظهر التشريح أن ذلك الآخر غير مجني عليه، وقد يجنى على رجل ثم يلقى بعد الجناية عليه في بئر بقصد إخفاء الجريمة وضياع الجناية إلى غير ذلك مما هو معروف، فضلا عما في التشريح من تقدم العلم الذي تنتفع به الإنسانية كلها وينقذ كثيرا ممن أشفى على الهلكة أو أحاطت به الآلام من كل نواحيه، فهو يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت، إلى غير ذلك مما لا داعي للإطالة فيه، نقول: من نظر إلى ذلك الإجمال وما يتبعه من التفصيل لم يسعه إلا أن يفتي بالجواز تقديما للمصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة، ومتى كان تشريح الميت بهذا القصد لم يكن إهانة له ولا منافيا لإكرامه، على أن هذا أولى بكثير فيما نراه مما قرره الفقهاء ونصوا عليه في كتبهم من أن الميت إذا ابتلع مالا شق بطنه لإخراجه منه، ولو كان مالا قليلا، ويقدره بعض المالكية بنصاب السرقة، أي ربع دينار أو ثلاثة دراهم، وكلام الشافعية قريب من هذا، وربما كان الأمر عندهم أهون وأوسع في تقدير المال الذي يبتلعه، فإذا قسنا ذلك المال الضئيل على ما ذكرنا من الفوائد والمصالح وجدنا الجواز لدرء تلك المفاسد وتحصيل تلك المصالح أولى من الجواز لإخراج ذلك المال القليل، فهو قياس أولوي فيما نراه. انتهى.

غير أنا نرى أنه لا بد من الاحتياط في ذلك حتى لا يتوسع فيه الناس بلا مبالاة فليقتصر فيه على قدر الضرورة، وليتق الله الأطباء وأولوا الأمر الذين يتولون ذلك وليعلموا أن الناقد بصير والمهيمن قدير والله يتولى هدى الجميع والله أعلم.