للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من جهله (١)». ودرج بعده أصحابه على هديه في التداوي والعلاج.

فكان الطب تعلما وتعليما مشروعا بقول الرسول وفعله، بل بدلالة الآيات الواردة بالترخيص للمريض بالفطر تمكينا له من العلاج، وبعدا عما يوجب تفاقم العلة أو الهلاك، والترخيص لمن به أذى في رأسه في الإحرام، وهو علاج للعلة وسبب للبرء، والترخيص للمريض بالعدول عن الماء إلى التراب الطاهر حمية له أن يصيب جسده، في ذلك كله تنبيه على حرص الشارع على التداوي وإزالة العلل والحمية من كل ما يؤذي الإنسان من الداخل أو الخارج، كما أشار إليه الإمام ابن القيم في زاد المعاد، فكان فن الطب علما وعملا من فروض الكفاية التي يجب على الأمة قيام طائفة منها بها، وتأثم الأمة جميعها بتركه وعدم النهوض به، كما أن جميع ما تحتاج إليه الأمة من العلوم والصناعات في تكوينها وبقائها من فروض الكفاية التي أمر بها الشارع وحث عليها، وحذر من التهاون فيها.

ومن مقدمات فن الطب، بل من مقوماته تشريح الأجسام، فلا يمكن الطبيب أن يقوم بطب الأجسام وعلاج الأمراض بأنواعها المختلفة إلا إذا أحاط خبرا بتشريح جسم الإنسان علما وعملا وعرف أعضاءه الداخلية وأجزاءه المكونة لبنيته واتصالاتها ومواضعها وغير ذلك، فهو من الأمور التي لا بد منها لمن يزاول الطب حتى يقوم بما أوجب الله عليه من تطبيب المرضى وعلاج الأمراض، ولا يمتري في ذلك أحد، ولا يقال: قد كان فيما سلف طب، ولم يكن هناك تشريح؛ لأنه كان طبا بدائيا لعلل ظاهرة، وكلامنا في طب واف لشتى الأمراض والعلل، والعلوم تتزايد، والوسائل تنمو وتكثر.

وإذا كان شأن التشريح ما ذكر كان واجبا بالأدلة التي أوجبت تعلم الطب وتعليمه ومباشرته بالعمل على الأمة لتقوم طائفة منها به، فإن من القواعد الأصولية أن الشارع إذا أوجب شيئا يتضمن ذلك إيجاب ما يتوقف عليه ذلك الشيء، فإذا أوجب الصلاة كان ذلك إيجابا للطهارة التي تتوقف الصلاة عليها، وإذا أوجب بما أومأنا إليه من الأدلة على الأمة تعلم فريق منها الطب وتعليمه ومباشرته، فقد أوجب بذلك عليهم تعلم التشريح وتعليمه ومزاولته عملا.

هذا دليل جواز التشريح من حيث كونه علما يدرس وعملا يمارس، بل دليل وجوبه على من تخصص في مهنة الطب البشري وعلاج الأمراض، أما التشريح لأغراض أخرى كتشريح جثث القتلى لمعرفة سبب الوفاة وتحقيق ظروفها وملابساتها، والاستدلال به على ثبوت الجناية على القاتل أو نفيها عن متهم فلا شبهة في جوازه أيضا إذا توقف عليه الوصول إلى الحق في أمر الجناية للأدلة الدالة على وجوب العدل في الأحكام حتى لا يظلم بريء ولا يفلت من العقاب مجرم أثيم.

وكم كان فيصلا بين حق وباطل، وعدل وظلم، فقد يتهم إنسان بقتل آخر بسبب دس السم له في الطعام، ويشهد شهود الزور له بذلك، فيثبت التشريح أنه لا أثر للسم في الجسم، وإنما مات الميت بسبب طبيعي، فيبرأ المتهم، ولولا ذلك لكان في عداد القاتلين أو المسجونين، وقد يزعم مجرم ارتكب جريمة القتل ثم أحرق الجثة أن الموت بسبب الحرق لا غير، فيثبت التشريح أن الموت بسبب جنائي والإحراق إنما كان ستارا


(١) صحيح البخاري الطب (٥٦٧٨)، سنن ابن ماجه الطب (٣٤٣٩).